الأربعاء، ٣ ربيع الأول ١٤٣١ هـ

جارتي عاهرة !

مذ فارقتني روحه الطاهرة ، بتُّ مدمنةً على استنشاق الوحدة ، بل وافرضها على دفاتري لتتلو بنبض سطورها آيات العزلة ، وترتل غربتها ترتيلاً جديداً لم اعرفه من قبل !
لقد كان صديقاً حميماً وحبيباً متلهفاً قبل ان يكون زوجاً مخلصاً ومحباً ، لكن يد القدر طائلة فقد استطاعت سرقته حتى حين كانت باقة التوليب نائمة على ذراعيه ، ولم تستفق إلا على كتف سيارةٍ مجنونة لُقنت لعبة الموت بسهولة ، فنام نومته الابدية وولى توليب حياتي معه !
يا لوقاحتها حقاً !
فأنا اضاجع حزني واستمرئ دموعي كل يوم ، وهي تضاجع عشرات الرجال في يومٍ واحد ، حتى انها لا تحاول اخفاء الامر ، فتثقب اذني بأصوات تعاركهم فوق السرير ليل نهار ..ثم الا تتعب ؟
وما بهم هؤلاء الحمقى ..فكيف يستطيعون الوصول الى تلك النشوة مع جسدٍ يدفعون لقاءه ؟
لا اعرف لماذا استأجر زوجي " رحمه الله" هذه الشقة؟ والى جانب هذه العاهرة تحديداً ، أتراه لم يكن يعرف بأمرها منذ البداية؟ ام انه كان احد زبائنها ؟ لا لا ..حاشا وكلا ..كيف يمكنني ان افكر بذلك ولم تمضِ على وفاته سنتان بعد..(صحيح اني قليلة اصل ) !

أذكر انه - رحمه الله- كان كريماً ، عطوفاً ، حتى انه كان يقيم مأدبة عشاء فاخرة للفقراء والمحتاجين في نهاية كل اسبوع ، ورغم امتعاضه الشديد من جارتنا هذه ، الا انه كان يدعو لها بالصلاح دوماً ، لكنني استغرب امرها كثيراً فهي لازالت شابة يافعة وجميلة وتستطيع البحث عن أي عمل آخر ، فلمَ اختارت ان تبيع جسدها بإرادتها (للي يسوى واللي ما يسوى ).. يبدو انها تبحث عن الكسب الوفير والسريع !
لكن وحتى لو كان كذلك ، فهذا ليس سبباً مقنعاً لتدوس على شرايين كرامتها في كل مرة تأوي الى الفراش مع احدهم !
ويا للعجب ..فكيف يختلف مفهوم الوقت بيننا ؟
فها هي تتجول في رحاب ايامها بين السرير والهدايا ، وتتناول الطعام في افخم المطاعم ، وترتدي افضل الماركات العالمية ، ويوماً تراها عائدة من باريس ، ومن روما في يومٍ آخر !
وحقاً انه لأمر مثير عندما ترتقي الاقنعة المزيفة بنا الى سماوات براقة وفسحات ارضية ملونة احياناً !
وبينما " هي" تعيش الحياة بطولها وعرضها في معظم الوقت ، فأنا اموت كل الوقت .. فمن يوم رحل مرغماً قبل اكثر من سنة وغدوت ارملةً في الثلاثين ، ارتدت روحي ملابس الحداد ، وراح فؤادي يتجول كل ليلةٍ بين قبور الذكريات ، فأدمنت كل طرق الهرب المشروعة وغير المشروعة لأنام ثملةً بعد عراكٍ طويل مع النفس والنجوم والجدران !
وحتى عندما يتنفس اليوم التالي فإني لا ابصر أي خيط من خيوط الشمس ، ستائري مغلقة دوماً ونوافذي تبتلع ضوء النهار كثقبٍ سوداء استبد بها نظامٌ ارضي اوتوماتيكي لسلب الحيوية من وجه الايام التي تمر كئيبة في قطار حياتي الذي يسير بسرعةٍ دون التوقف في أي محطة ، ولأي سبب كان !
البارحة فقط استطعت الخروج من باب الشقة والوقوف في الممر نفسه الذي يؤدي الى شقتها ، وبينما هبت نسمة النشوة لتذكري قبلته عند كل صباح ، استوقفني مشهد احدهم وهو يهرول الى شقتها بكل شهوته العطشى ، ورغماً عني فقد استطعت احصاء دخول اكثر من ثلاثة رجال اليها دفعة واحدة ، وقد لمحتها اكثر من مرةٍ متبرجةً وعارية ، تفتح الباب وتغلقه بكل قلة ادب ، حتى اني خجلت من نفسي وعدتُ الى ايوان شقتي العنُ كل القيم والمثاليات ، فأسب اخلاصي والمي معاً ، حتى فاجأتني انهار البكاء بفيضانها فوق وجنتي ، فبعده لم استطع ان ابدأ من جديد..
نظرتُ الى غرفة نومي البائسة بعد ان شربت كأسين من الويسكي وقررت اني لن ابرج واجمل وجه ليالي السوداء ، فهي ستمر شاءت ام ابت ، بصعلكتها او بأدبها ، ولمَ قد اتعب فقد صرت احس اني حفنةٌ من الغبار فوق هذا السرير ..

لقد ظللتُ اياماً بلياليها اغار من جارتي تارةً والومها تارةً اخرى ، فأتصارع بيني وبين نفسي في حلبة المسموح والممنوع ، والحلال والحرام ، فلا اعرف من الذي يكتب ..انا ام الحيرة نفسها هي التي تكتبني ؟
ورغم ان الساعة التي اكتب امامها عادةً كانت تتذمر من بطء مرور دقائقي قبل ان تحين لحظة ولادة النص ، فتلومني وتظل تنقر نقراً رهيباً بعقاربها فوق رأسي لتحرق اعصابي وافكاري معاً ، الا انها اجبرتني اليوم وبعد صراع اسبوعٍ كامل على حملها ورميها من الشباك ، والغريب اني سمعت تكسر عظامها ولم اسمع منها أي صراخٍ او شكوى ..فهل تراه الوقت يسخر منا بعدوه الدائم دون توقف؟ ومن منا الذي يلحق بالآخر؟
أما الآن ..فها انا اجد نفسي اكتب فوق الرصيف المحاذي لشقتي بعد ان طردتني صاحبة البيت بسبب شكاوى الجيران مني لسأمهم من نوبات جنوني الليلية ، ويا للعجب فقد طُردت جارتي لتلويثها سمعة الحي بأكمله كما ادعت صاحبة البيت ..وعندما سألتها عن السبب قالت :" كل هذا حصل ، لأنني كريمة واستقبل ضيوفي بحفاوة ، يا لهذا التخلف ! يبحثون عن قيم في عصرٍ مادي قتلنا القيم به خنقاً وبأيدينا ..فهل تدعين قلمك الاحمق وتأتين معي؟"
نظرتُ اليها باستغراب شديد ، حملتُ حقائبي ولوحت بيدي : تاكسي..تاكسسسسسي !