الثلاثاء، ٨ محرم ١٤٣٢ هـ



عارية ولكن!

في كل مرةٍ كنت ارسم فيها قوس قزح كنت أمده على كل الصفحة بمقدار كل الواني الخشبية والزيتية كلها مجتمعة معاً ، وفي وسط الورقة كنت اخترع خطوطاً لشكل امرأة عارية تبتسم ودموعها تسيل على خدها انهاراً من اللؤلؤ..
لم يكن أي شيء قد يجمع بين صورةٍ لقوس قزح وامرأة تبكي وتبتسم معاً إلا شيئاً واحداً : فرحٌ لا يشبه الفرح !
وعلى قارعة الطريق اتمدد بصمتٍ هكذا .. بصمت قوس قزح الذي ينبض بصوت التفاؤل والفرح ، على قارعة الطريق اتمدد كما تمتد مساحة الكلام .. كما اتمدد بهدوء وحذر على حافة الحياة !
قذفت على قارعة الطريق من حيث لا ادري ، دفعني احدهم وألقى بي من الطابق العاشر للحلم بعد إن صفعني صفعتين : الأولى كي توقظني من عالمي المعقم والثانية كي تجبرني على كسر الصمت والخجل والبراءة.
أتمدد ..أمعن النظر في الفراغ ، أروض النبض والكلام وحين بدأت اعجز عن ذلك قررت ان انهمر على الورق مطراً مترعاً بالنقاء والأسرار معا ً ..
أتساءل بيني وبين نفسي لماذا نظل نلعب ادوراً لا نريدها معظم الوقت فربما نستطيع برمجة انفسنا بحسب ساعات وأزمنة قد صنعناها بأنفسنا لنخلق نظاماً وهمياً كاملاً نرتب به عقولنا وأيامنا وحياتنا لكننا نتناسى تنظيم عوالم الفوضى في داخلنا .. أترانا غير قادرين على ذلك؟
ربما لهذا السبب لا زالت المرأة في مجتمعنا تلعب دور البريئة الساذجة غير المجربة أمام من تريده زوجاً للمستقبل ، فحين يسألها مثلاً عن علاقاتها السابقة تفضل ان ترسم ابتسامة خجولة مدعيةً انه حبها الاول والأخير وان "ما حدا باس تمها غير امها " ، او مثلا ترانا نجد ازواجاً يعودون إلى بيوتهم على رؤؤس اصابعهم بعد منتصف الليل وحين تصطادهم الزوجة يدعون بأنهم مرهقون من العمل رغم ان الواحد منهم قد كان يسرح ويمرح في حضن عشيقته ، او حتى بمجرد مقابلة عمل بسيطة ترانا نهلل ونمدح بهذا العمل بالذات واننا اخترناه وفضلناه على غيره لحبنا فيه رغم أننا نعرف بيننا وبين انفسنا ان كل هذا غير صحيح وأننا ذهبنا مجبرين بعد ان بعثنا بعشرات الرسائل الى مكاتب اخرى ولم نستدعى اليها !
نلعب ادواراً كل الوقت وحتى دون ان نشعر وغالباً وفي كثير من الاحيان بطيب نية، لكن هل الحياة طويلة الى هذا الحد حتى نضيع جهودنا في هذه التفاصيل؟
أجلس على قارعة الطريق وعلى هامش الرصيف امزق دفتر الذكريات صفحة صفحة ، انظر الى حقائبي المتخمة بالجراح ورزم الخيبات ، انظر اليها وأشفق عليها فأنا اعرف بأنها مهما امتلأت ستظل غير كافية ، فمن الصعب جمع تفاصيل حياتي في حقيبة سفر..!
أمد يدي ، اسحب شفرةً من احدى الحقائب وضعتها ولا اعرف لماذا .. لكنني اتناولها بحذر ، اقطع بها كل الرزم المرتبة ، كل الأحزمة التي تكبح جماح تهوري واقطع معها أزرار قميصي ايضاً ، امسح الالوان من فوق عيوني ، أمحو احمر الشفاه بغضبٍ وأسب حماقاتي ، امسك برموشي وأحاول تفتيها ، انثر شعري على كتفي ، ارميه فوق ظهري كذيلِ حصانٍ هائجٍ اعتاد العدو دون توقفٍ ابداً !
يتناثر عقد دمعي .. لا أقوى على تبريد هذا البركان..فأخلع القميص من على جسدي ، انزع أقراطي اللؤلؤية وودتُ لو كنت قادرةً على التجرد من كل ملابسي حتى ..
السيارات تمر مسرعةً كما وقتي المتسرب كرمل البحر بين يدي ايامي ،هذا يمر ويلقي علي نظرة اعجاب وتصفيرة ، ذاك يتوقف ليسبني ويلعن ساعة البنات وولادة البنات ، وذاك يمر بحذر متفحصاً لتفاصيل هذا البركان المنفجر على قارعة الطريق ، وتلك تمر من امامي لا بد متسائلةً بينها وبين نفسها كيف لهذه المرأة ان تتجرد من قميصها هكذا "دون احم ودستور" في الشارع العام ؟وتلك وذاك وتلك..
أما انا .. لا اتمنى شيئاً الساعة بقدر انتظاري للمطر !
محاولاتي بالصمت باءت بالفشل كالعادة ومحاولات الكلام لدي انتهت بالهزيمة ولذا قررت ان اكون وليدة النص والورق .. وما هي الجريمة في ان نكتب؟ وعراة..؟ وعلى الطريق العام ؟
ماذا لو جلسنا يوماً عراة تحت ضوء القمر؟ ماذا يعني ان تكون عارياً؟ لماذا نخشى العري الى هذا الحد؟ الأننا نخاف الوضوح والحقيقة؟وماذا لو كانت الحقيقة هي ان الإنسان لا يكون محرراً من كل قيوده تماماً الا بعد ان ينزع اطنان الأقمشة والألوان والماكياج من فوقه؟
هي معادلة بسيطة جداً .. ان تكون عارياً معناه ان تكون مرتاحاً وعندما ستكون مرتاحاً ستكون لا بد متحرراً وعندما تتحرر ستغدو سعيداً ، وعندما تكون سعيداً لا بد ستكون قادراً على التفكير بنقاءٍ وسلالة و هذا ما يخشاه الشرق !!(وبدكم الصراحة؟ هذا ما تخشاه انظمتنا العربية كي لا ننقلب ضدها ) !
على قارعة الطريق اجلس كما اجلس على حافة الحياة تماماً كما اجلس عند كل طقس كتابة جديدة ، وجهي رمادي يتمنى ولادة المطر في كل لحظة ، مكشوفة الصدر والساقين ، افرك كفتي وأصابعي كل ثانية ، عيناي تتجول في كل الزوايا من حولي ،شموعٌ تبكي في كل منطقةٍ في خيالي وفانيل يعبق برائحة الورق ، أما الحبر فيرسم طريقه على رسغي دون ان يتوه ولو بسنتمتر واحد ، ألعب بخصل شعري المتناثرة ، ابحث عن شيء لا اعرفه ولكني اظل ابحث وابحث ..
احضن حقائبي ، أسير حتى "الثيستل هايد بارك" ، احجز لعدة ايام ، اصعد الغرفة متعبة ، ارمي بالأغراض كلها دفعة واحدة وأهرول لإعداد القهوة ..
أجلس في الشرفة كما اجلس عند كل طقس كتابة ، عارية من كل قطع القماش التي ارهقت نفسي وجسدي .. عارية من كل ما هو واقعي ومتوقع،من كل الوان البديهية والمنطق ، عارية حتى من غيوم قلقي ..
ارتشف القهوة على مهل ، أدير مذياعي الصغير :
"وهوى الوديان زكرني بهواكم..
هوى الوديان
قلبي الولهان شعلان بهواكم..
قلبي الولهان"
الله عليك .. الله يا صافي !

السبت، ٨ ذو القعدة ١٤٣١ هـ

فن الحذف

كنت اعتقد دوما أن فن الحذف مقتصرٌ على الادب وحسب.. على تلك الجملة التي قد لا تضيف شيئا لجسد القصيدة ،على تلك الاستعارة التي قد تضعف صدر المعنى بدل ان تقويه ،لكنني اليوم وبعد ان توصلت الى ان الادب هو نهج حياة.. روح قتالية ودفاع شريف عن المبادئ والخطوط العريضة لحياتنا وأجسادنا وان الكاتب مهما كانت مكانته في الوسط الادبي والحياتي والاجتماعي، صغيراً كان ام كبيراً فانه سيظل دوماً اسير كلماته وقناعاته الخاصة حتى لو حاول تغير ذاته وضربوه بالمطرقة على رأسه كل يوم !
بتُّ على قناعةٍ اليوم أن فن الحذف ليس ضروريا في الأدب فقط وانما في حياتنا اليومية ايضا فحذف الاشخاص من قائمة ايامنا وقلوبنا ليس بالامر السهل لكنه ضروري بل وحتمي جدا رغم كل الالم الذي قد يرافق دورتنا الشعورية والحياتية ...
فلماذا يجب ان نحتوي الاخر الذي يحبطنا ان لم يكن يفهمنا او يحترمنا لاننا مختلفين لا غير ، لماذا يجب ان نكون ضحية لجلادٍ نسميه قريباً او حبيبا او حتى صديقا حتى ؟
الحذف حتمي من قائمة النبض والعقل والأيام ايضا وليس غرورا انما حاجة مهمة لا غنى عنها ، فاحذف من يحتقرك لانك لا تشبهه في الايدلوجيا او نهج الحياة او المبادئ ... واحذف من لا يضيف لك شيئا على خريطتك الفكرية والثقافية وكأن وجوده مجرد ظل او صورة او جدار وهمي قد يحميك ، واحذف من يرتل لك كل يوم اوامر عليك ان تنفذها رغما عنك.. واحذف من يؤلمك ويفرغ رصاص تعقيداته وافكاره المسبقة على باب فؤادك.. واحذف من لا يأبه لآلامك وآمالك فأنت ببساطة قد تكون مجرد عادة روتينية مقيتة له او منظرا يتباهى به او رهانا قد راهن به عليك امام اصدقائه وفاز بطرقه الملتوية وخدعه الكثيرة او مجرد صيدٍ لنيةٍ مؤجلة في نفس يعقوب... واحذف من حياتك كل من لا يريد ان يسمعك ..أجل.. خاصةً من لا يريد ان يسمع ما تقول او تكتب فهذا بحد ذاته قمة الاحتقار والسخف والاستهتار لا وبل مؤشر قوي على انك لا تعني له شيئاً فكل ما تفكر به ضربٌ من الحماقة لديه والنتيجة انك بمحصلة حياته تساوي صفراً..
احذف كل من لا يحس بينه وبين نفسه اولاً ان علاقته بك هو مدعاة للفخر والأمل والنجاح ...
احذف واحذف واحذف وابقي المشاعر سيوفا في غمدها والا قتلتك او كلفتك اعصابك وايامك وحياتك...!
فن الحذف ليس مقتصراً على الأدب وعلاقتك بالآخر وإنما على كل العادات السيئة التي تجعل منك عبدا مسيرا لها ... كالسيجارة المقيتة ... كالأغنية التي تصر ان تسمعها دوما لمجرد انها جميلة وتذكرك بذكرى ما ماضية فالاغنية التي لم تسمعها بعد ستظل دوما ابهى حلة من الأغنية التي سمعتها تماما كالقبلة التي تحدث عنها نزار ...وأنتِ ايضا احذفي من دولابك كل الفساتين التي اعتقدت يوما انها جلبت لك الحظ فلا شيء في حياتنا اسمه حظ او صدفة .. كل شيء لسبب وكل شيء لم يخلق عبثا ... ولا تصري على ارتداء الأسود ظنا انه سيخفي كل الكيلوغرامات الزائدة فبهذا توهمين نفسك يا عزيزتي .. ان لم تكوني مقتنعة بشكلك وجسمك الجميل فهنا تكمن المشكلة الكبرى لا في شكل الفستان ولا في لونه ولا حتى ان كانت خطوطه عمودية ام أفقية !
احذف من قائمتك الشهرية كل الايام المتكررة التي اجتررتها بحكم العمل والعائلة والضرورة.. احذفها فاليوم الذي تعيشه كاليوم الذي كان البارحة وسيكون غدا هو ليس داخلا في حساب عمرك وحياتك التي لا تقبل ابدا ان تكون فقيرة المشاعر عديمة التجدد .. احذف من مطبخك نوع القهوة الذي تشربه دائما وجرب كل انواع القهوة ..العربية.. التركية.. البرازيلية فلكل منها نكهتها ولذتها ، ولكل منها إضافة كافائينية ، ومزاجية مختلفة ، احذف من قائمة طعامك تلك الاكلة التي تأكلها دوما فقط كي توهم نفسك انها المفضلة وانها اللذيذة بين كل الاكلات خاصة ذاك الاكل السريع الممل المقيت ،وجرب تناول نوع واحد من الخضار على الاقل كل يوم ، وهكذا ستحافظ على صحتك وستعرف عندها ان للحذف دور ضروري في حياتك حتى الصحية منها .. احذف ...............احذف واحذف واحذف ..
احذف دموعك من مرآة عينيك وجرب ان تستبدلها بابتسامة ساخرة حفاظاً على مكانتك وإلا استغل الآخر شفافيتك ولحظة ضعفك .. وافتح دفتر مذكراتك كل ليلة واكتب كل ما يؤلمك وعند شروق شمس فجر اليوم التالي مزق تلك الصفحة وابدأ يومك الجديد كأنه الاول في حياتك .. لأنك ان لم تفعل كل ما ذكر اعلاه ستظل أسير حزنك الماضي ويأسك القادم !
احذف واحذف لكن عندما تحب فلتحب امرأة واحدة تغنيك عن كل النساء –فكل نساء الأرض لا يساوين شيئا امام ابتسامة واحدة من المرأة التي تحبها ...!

الاثنين، ٢١ شعبان ١٤٣١ هـ

"لماذا نتزوج؟"

"أعرف وجهه الفولكلوري ووجهه الشهواني ووجهه المكسور، ولا أعي انني اعرف وجوهه كلها ، اتوهم احياناً انني اعرفه ولكنني أعي انه كلما مرت السنين علينا معاً ان ثمة دهاليز تقود الى دهاليز في اعماقه كما هي حالي ولا احد يعرف حقاً أي شخص حقاً حتى لو ربطت بينهما عقودٌ من الزواج"!
هذا ما تقوله الأديبة الرائعة "غادة السمان" في حديثها عن معرفة الآخر خاصةً المؤسسة الزوجية فهذه المؤسسة القائمة منذ آلاف السنين آخذة بالانهيار شيئاً فشيئاً ، ورغم ان الانسان لا زال مستمراً وفي كل المجتمعات بإنشاء هذه المؤسسة يوماً بعد يوم ، بوعي وغير وعي ،ارادياً ولاإرادياً ، مدركاً للضريبة التي سيدفعها من عمره ، وقته ،اعصابه وحياته ، وغير مدرك، إلا ان حالات الطلاق والخيانات الزوجية آخذة بالارتفاع بشكل ملحوظ في السنوات الاخيرة !
فلماذا اذن يضطر البشر للزواج اصلاً؟ وكيف يقبل الفرد تقييد حريته وربط كل تفاصيل حياته بشخص آخر قد يفهمه ويتقبله كما هو وقد لا يفعل ! بحجة ان هذه هي "سُنّة الحياة" ، وحتى لو فرضنا ان الشريكين متفقين ومتفاهمين فهل تستحق هذه المؤسسة كل هذا الرهان وهذه المغامرة ؟
بعد ان كانت علاقة الرجل بالمرأة مقتصرة على المشاعر والجنس والغذاء ، فقد ظهر مفهوم الزواج عندما فرضت الذكورة سلطتها في المجتمعات مع ظهور الشكل الاول للفردية الزراعية ، وبدأ ذكور القبيلة بإبراز مفهوم الزواج كعلاقة طويلة الأمد يجب تقديسها مستخدمين بذلك كل الأساليب والطرق وأهمها الدين ليشكل ذلك حجة قوية لا تردع في وجه كل من يعترض !
أما أنا فأرى بأن الزواج ما هو سوى مؤسسة روتينية فاشلة ، بل وهي أسوأ مؤسسة اجتماعية تتزين بالكذب والنفاق والتظاهر الدائم ، ولا انفي بهذا الحديث كم من ايجابيات قد تتوفر بين الزوجين ،لكنني لو أحصيتها لوجدت ان السلبيات بارزة بشكل ملحوظ جدا ، فبينما تكون المرأة ماكنةً لتفريخ الاطفال وتلقى عليها مسؤؤلية الحفاظ على هذه المؤسسة في مجتمعاتنا العربية من تربية ، تغذية، ودٍ واخلاص ، يكون الزوج في معظم الحالات رجلاً مشغولاً ذا صوت مرتفع ،يسرح ويمرح بنظراته قبل تحركاته ويفاخر بين اصدقائه بأنه قادر على تنظيم وقته بين زوجته ومعشوقته او بين زوجته الاولى وزوجاته الاخريات، وفي هذه الحالة يتسم الرجل بنظر الغير بأنه "عنتر زمانه" وأنه " راجل ولا كل الرجالة " !
وهذا كله ايضاً لو غضضنا البصر عن عقود الزواج ومعانيها، ورمي كل مفاتيحها بيد رجل قد يعدل وقد لا يفعل ، هذا إن كانت الورقة اصلاً تحفظ للمرأة مكانتها وكرامتها في مجتمعاتنا !
إن الاختلاف في المستوى الفكري ، الثقافي والاجتماعي يشكل اكبر تهديد على هذه المؤسسة لأن احد الطرفين سيكون راضياً دوماً والآخر متذمراً ، مكبوتاً وسيكون كل واحد متواجد في عالمٍ آخر كلياً، وهنا سنعتقد بأن عامل المشاعر والأحاسيس سيكون قادراً على الصمود امام تحديات الحياة في هذه المؤسسة ،لكنني اتساءل كيف ستستطيع المشاعر حل هذه المعضلة امام التغييرات التي ستطرأ على كل شريك منهما في هذه المؤسسة فالواحد منا يتغير في اليوم مائة مرة وتتبدل مزاجيته وأفكاره وخبرته في الحياة كل يوم، إذن سيجد الزوجين انهما غريبان عن بعضهما في مرحلة ما وهنا تبدأ المشاكل وتبدأ اصواتهما بالوصول الى مسامع الجيران !
وليس هذا فحسب وانما قد تتعرض هذه المؤسسة للانهيار في أي لحظة بسبب الملل والفتور الذي قد يسيطر على العلاقة وقد يحتلها فيبيت الروتين اكبر عدو من الصعب محاربته ، فكيف يراهن الفرد على حياته بزج نفسه ارادياً في هذا السجن وهو معرض للفشل في كل لحظة بين الجرح من خيانة قد تكسر قلبه وبين الملل الذي قد يخنقه او حتى بسبب التغييرات التي ستطرأ عليه بحكم الحياة اليومية والتجارب المستمرة المختلفة!
لقد اظهرت دراسة مثيرة نشرت في موقع " العربية نت" بأن نسبة الطلاق قد ارتفعت في العشرين سنة الاخيرة من 25% الى 60% ، هذا اذا ما تجاهلنا ايضا ً حالات الزواج الصامدة فقط بسبب الاولاد او الخوف من لقب مطلق او مطلقة او اولئك الازواج الذين رضوا بالبقاء معاً بسبب عمل مشترك او مصالح مادية ما !!
وهذه كلها طبعا تكون ضمن ال40% المتبقية ، اذن لماذا نتزوج ؟ لماذا؟

السبت، ١٥ جمادى الآخرة ١٤٣١ هـ

في ليلة السبت2

في ليلة السبت تهرب مني كل اطياف من رحلوا وتولي كأسراب اليمام الى دروب اجهل نورها , حينما تلبس الأحلام ملابس الحداد وتلقيني بقوةٍ في مهب ريح الذكريات المعتمة على بُعد لحظة يقظةٍ وسنين مسافرةٍ من النوم , ولعله هو ذاك الشوق اللعين ما يدعوني للتقلب على انصال سيوف غادرة لم تختر سوى قلبي الصغير لتنقش فيه كل آلامي الفائضة في شراييني وآمالي القادمة!
لكنني اعلم علم اليقين " بأننا في كل ما نقول وما نفعل وما نكتب إنما نفتش عن انفسنا " , ورحلة البحث عن الذات لطالما كانت شاقة ومرهقة , ولأنني ابحث عن ذاتي , عن أنايَ الحائرة وسط هذه المدينة الواسعة فعليها اذن ان تقبلني كما انا دون أي رتوش او تنازلات رغماً عن كل ذرة ترابٍ فيها الا تكفيني متاعب هذه الرحلة؟
لقد قررتُ شنَّ الحرب المعلنة في ليلة السبت , سأغني ,سأرقص , سأسبُّ القدر البائس, سأكسر كل ابواب الخيبة , وسأبكي , اجل سأبكي... فلا شيء اجمل من تنقية النفس بعد شتاءٍ كاملٍ من البكاء ! وما المشكلة لو ظن كل من يراني بأني مجنونة؟ ما المشكلة؟ "فأجمل الأشياء هي تلك التي يقترحها الجنون ويكتبها العقل "!!
لماذا يصفوننا نحن اصحاب القلم والضمير الحي والكلمة الهادفة المتمردة بالمجانين؟ وكأن المبدع هو فعلاً محض شبحٍ لا وبل غريب الاطوار ايضاً ؟ لماذا يجب ان يكون الإبداع مجرد اجترارٍ لكل ما مضى؟ او تكرارٍ منقوصٍ لكل من غادروا بموعدٍ ودونما موعد؟
وهل فعلاً يعتبر المبدع ( كاتباً كان –ممثلاً-شاعراً وحتى راقصاً ) من غير البشر؟
لا ادري..ربما كان كذلك فأحياناً أحسُّ اني املك ثلاث عيون وثلاث آذان وقلبين , وأحس بحاجتي للبكاء بقدر عشر نساء وللحضن بقدر امرأة لم تحتضن من قبل ابداً , لماذا اصرُّ على أن أحسَّ بالأشياء كلها على طريقتي الخاصة ؟ ولماذا في ليلة السبت تحديداً؟
لست ادري .. لست ادري فالأدب ما كان يوماً عرضاً للحقائق والإجابات , انه تورطٌ يتجاوز المكان والزمان والطبيعة , تشعر بأنك متورطٌ من رأسك حتى اخمص قدميك تارةً بنبيذ الفردوية الغامضة ويسعدك ذلك حتى الثمالة , وتارة اخرى ترى نفسك تعيساً وتتمنى لو خُلقت عادياً لا وبل عادياً جداً كمعظم البشر الراضين بما ملكوا وأكلوا وشربوا وقرأوا صدفةً أو مارسوا الحب بصدقٍ مرة واحدة فقط ليوهموا أنفسهم انهم على قيد الحياة وهُم في الحقيقة لا يحيون إلا يوماً واحدا كفيلم يومي يذاع على القناة الارضية وبالأسود والأبيض ايضاً !
ولعلَّ الفلاسفة قد صدقوا بادعائهم أن الشاعر اوالكاتب او الفنان يمتلك شخصية مختلةً في توازنها لا في الذكاء ولا العقل , وربما كانت "أزهار الشر" خير دليل على ذلك والعاكسة لروح احد رموز الحداثة في العالم "بودلير" والذي فشل في التأقلم مع نفسه ومجتمعه وحتى أسرته الشخصية , ولكن إن اعدنا النظر لكل ظروفه الحياتية والمجتمعية وفشله المتواصل لوجدنا ان كل ظروفه هذه هي التي كانت وقود شعره الرائع !
وربما كان ادراكنا لحقيقة اختلافنا هو ما يدعونا للعزلة والحاجة للتأمل الطويل الذي قد يمتد سنيناً بأكملها , او ضرورةً حسية لاختصار كل مظاهر النفاق الاجتماعي او الجهل الفكري المقيت وهذا وحده كفيلٌ بزجنا في سجن التميز الموحش والمسبب لوحدةٍ وغربةٍ لا تنتهي ابداً رغم كل الحاضرين والمارين والراحلين!
مشكلتنا تكمن بأن غير المبدعين يظنون دوماً بأننا نتفلسف او " نعمل من الحبة قبة" لكنهم لا يعرفون ابداً بأن هذه هي مشكلة وجودنا الكبرى, فنحن نمتلك في "جوانية" روحنا مليون عالمٍ حسي خيالي ,ولأننا نرفض ان نتواجد في القوالب الاجتماعية المتعارف عليها , فترانا دوماً افراداً متمردين على كل ما هو قائم وكل ماهو مفهوم ضمناً في اطار المسموح والممنوع والحلال والحرام , والمشروع وغير المشروع في سلة الدين والعادات السائدة والأعراف !
لذا يسبقني الحبر دوماً قبل ان انطق ببنت شفة وتغزوني التعابير وتقيدني في هذه الليلة وتشلني عن كل حركة خارج دائرة الحبر او مساحة الورق !
في ليلة السبت اكره التواجد في البيت , فالجأ للكتابة امام عملاق إلهامي الكبير ، هذا الذي على بساطه يجتمع الرمل والماء معاً ...
في ليلة السبت اكره بيتي , اكره التحديق بجدرانه ايضاً , ألا يكفي أننا نعارك الريح والنفس والجدران طيلة ايام الأسبوع؟
اكره ليلة السبت لأنها جافةُ, حارقةٌ وصامتة , اكرهها لأنها تعلقني على مشنقة الانتظار للمجهول, اجل اكرهها وألعنها وأريد حذفها من رزنامة الأسبوع فما عدت بحاجة إليها , فأناي باتت تعرف من انا..
أنا طائرٌ نورسي يحلق بين الواقع والخيال شاءت الصقور ذلك ام أبت !

الأحد، ٥ ربيع الآخر ١٤٣١ هـ


في ليلة السبت

جزء 1:
في ليلة السبت يغافلني القمر ويختبئ تحت لحاف نجومه كما لو كان قد تزوجهم في الخفاء وآثر ان يقضي ليلته بعيداً عني وعن نار جنوني كما اعتاد ان يفعل في نهاية كل اسبوع ..
في ليلة السبت يصير لوقع الإبرة في البيت رنين مميز فمعظم الجيران غير متواجدين في فراش احلامهم اللؤلؤية ، وفي هذه الليلة بالتحديد احمل كوب قهوتي التي أُصرُّ على شربها دوماً مع الهال وبدون سكر فهي لن تكون أمرَّ من الشعور بالتمزق ورحيل الهوية في هذه المدينة الكبيرة الواسعة والتي ستتعثر بكل خطوة فيها بأجناس مختلفة من البشر ويصير لصداقتك مع احدهم قيمة كبرى خاصة اذا ما كانت هذه هي العلاقة المقربة الوحيدة التي تمتلكها ، فحين تسكن صدفة في مدينة يهودية تنام على كتف يافا البهية ستحس آجلاً ام عاجلاً بانفصام حتمي في الشخصية كما أحسُّ في كثير من الأحيان ، فأنت العربي الفلسطيني عاشق رائحة الزعتر وشارب نبيذ القاسم والدرويش وناطق الضاد حتى لو دسستَ بينها عشرات الكلمات العبرية والانجليزية الأخرى تجد نفسك ضائعاً في دوامة اختيار تصرفاتك وحركاتك وحتى احرف كلامك المتقطع في كل موقف تواجهه حتى لو كان تافهاً ، بل وأكثر من ذلك ، فكيف سيكون شعورك حين ترى بأم عينك بأن المدينة قد امتلأت عمالاً أجانب " هعوفديم هزريم" ليسرقوا قوت أهلنا وأجدادنا ، وكيف ستشعر حين تجلس في الحافلة وترى عيون جميع الراكبين تحدق بك من رأسك حتى اخمص قدميك وأنت تتحدث العربية خلال إحدى مكالماتك في هاتفك المحمول ؟وكأنك كائن فضائي هبطت على الأرض فجأة ويجب نسفك تماماً رغم انك قد تكون جالساً لجوار روسي ما يثرثر بالروسية الثقيلة او العبرية المكسرة وكأنه من المفهوم ضمناً ان مكانه محفوظ هنا ،أما انت؟! فلا ذنب لك سوى انك من عرب "48"!
فكم بالحري لو كنتِ شابة عربية وجئت من القرية الصغيرة التي كان يحشر كل واحد فيها انفه بأمور الآخر بحقٍ وبغير حق ، وقد أتيت إلى هذه المدينة الكبيرة التي لا ينظر فيها حتى الأخ إلى اخيه والتي تجمع بين اليهود وا لروسيين والإثيوبيين والعديد من الجنسيات الأخرى ، فتستأجري شقةً في احدى البنايات الضخمة العالية والتي تجمع بين كل هؤلاء جميعاً !
في ليلة السبت احبس دموعي في خزانة البيت ، ألبس اجمل فساتيني ،ألون شفاهي العطشى للابتسام بأحمر الشفاه الوردي متيمنةً بالخير كلونه الفاتح ، أضع حزمة اوراق بيضاء وقلمين من الحبر الأسود في حقيبتي وأستأذن جارتي الاثيوبية بقطف زهرةٍ بيضاء من أصيصها الذي ملأته توليباً امام باب البيت ، وعندها اتورط ورطتي الكبرى فتترك توضيب البيت وتبدأ بسرد ديباجتها المعتادة علي من لحظة قدومها الى البلاد ، الى فصول العنصرية ضدها وضد اولادها ، وحتى الى آخر موقفٍ واجهته صباح اليوم مع صاحب الشقة الذي هددها بالطرد إن لم تدفع الأجرة خلال يومين ، خاصةً انه نوّه مراراً بأنه يفضل ان يصير معظم سكان العمارة من القادمين من بلاد الثلج والصقيع " هعوليم هحدشيم" !
ومع كل هذا أقفُ امام مرآة بيتها محاولةً وضع الزهرة على شعري ، مقدرةً لألمها ولا مبالية في الوقت ذاته ،فإذا كانت هي قد جاءت إلى البلاد بتصريح من الدولة العبرية قبل سنتين او ثلاثة وتشعر بكل هذه المرارة فكيف سأصف لها مرارة التمييز ضدنا ونحن مواطني هذه البلاد منذ اكثر من ستين عاماً وولدنا فيها قبل قدومها وقبل أبيها وجد جدها الذي لم يولد هنا اصلاً ، وهل ستقدر هذا الألم دون ان تحترق بنار حرائقنا نحن؟ لا أظن ذلك (رغم كل طيبتها) !
أواسيها ببعض الكلمات ، أحمل كوب قهوتي وأسير متجهةً الى شاطئ البحر الذي لا يبعد كثيراً عن بيتي ، هاربةً من كل همومي الماضية والحاضرة ومتمايلة على أنغام ال"أم بي 4" والذي اهتم بأن انقل اليه من حاسوبي الخاص كل اغاني أم كلثوم وكاظم الساهر و" الويست لايف" و" الفرانك سيناترا"،فكل هؤلاء سر عشقي الكبير للحياة ولولاهم ما هان علي لا ليلٌ ولا نهار ، وأزج نفسي في الزحام لأسير غريبةً في موكب الغرباء.
أسير في الطرقات مشوشة الشعور فتارةً يذبحني الحزن من الوريد إلى الوريد وتارةً أحس براحةٍ لا تضاهى تنبع من عدم معرفتي لأي أحد هنا، فحتى لو مشيت على رأسي لن يأبه احد بذلك هنا ، ولن أتعرض لأي مسائلةٍ اجتماعية بلهاء !
" ولعل ما يعطي السفر او البعد قيمة ما ، هو ذاك الخوف نفسه حيث يتحطم في داخلنا بعض من كياننا ، فالسفر ينتزع منا ذاك الملجأ الأخير عندما نكون بعيدين عن ذوينا ولغتنا وقد اقتلعنا من دواعمنا وعندها نصبح على سطح ذاتنا بكليتنا ".
في ليلة السبت أقفل هاتفي المحمول وأفتح الباب لشيطاني الملهم فلعله يزورني اليوم ويوقظ في داخلي كل عواصف أنايَ المؤجلة ! فأسير فاتحة ذراعي للريح جاهزةً لسماع طبول النبض الحائرة وراضية بما اقترفت من جرائم جنونية بحق نفسي خائفةً من المجهول الآتي!
والغريب في الأمر ان المشاهد هي نفسها تتكرر كل اسبوع ، فالشوارع تمتلأ بكل اجناس البشر ومعظمهم من الكبار في السن برفقة الكلاب والقطط ، وهل تراه الانسان لا يحس بقيمة الطبيعة والحيوان الا بعد ان يتمزق من جروح البشر وغدرهم؟ فيمضي حياته بجري مستمر خلف المال والأعمال ليحس فجأة ان العمر قد مضى وأن عليه ان يستمتع ببهاء الطبيعة والأرض قبل ان يهاجمه ملاك الموت فجأة؟
لا ادري .. لا ادري، فليس ملاك الموت من يؤرقني في ليلة السبت وإنما وحده سؤال يقلقني .. من انا في هذه المدينة الكبيرة؟ من انا بحق السماء ؟

السبت، ١٣ ربيع الأول ١٤٣١ هـ


زوجي ليس رجلاً

ستائرُ غرفة النوم الساكنة، فراش الزوجية البارد صيفاً شتاء، عطور وردٍ ذابل تسلقت جيدها العاجي، ليالي السهاد التي لا تنتهي، دموع الحزن الملتهبة والتي تشعل عيون الشموع من حولها
وبكاءٌ يتناغم مع كل لحنٍ حزين وتأرجح نجوم اليأس والملل على شرفة صدرها الذي لا يتزين سوى بتنهداتها المتواصلة مذ عرفت حقيقته وأدركت اخيراً سبب استعجاله لإتمام مراسم زواجهما...
هو طقسُ حدادٍ يومي اعتادت اتقانه كل ليلةٍ بنظرتها المنكسرة المقهورة امام استبداد غروره وتحليق طيور عينيه القاسيتين في سماء قلبها الذي بدأ يموت يوماً بعد يوم وجفاف اوردتها فلا تسمع منه كلمة حلوة ولا حتى كلمة شكر ابداً، الا يكفي انه اخفى عنها عجزه عن القيام بواجباته الشرعية في الفراش؟؟
لم تدم خطبتهما سوى أسبوعين انطلقا بهما كمن يمتطي جواداً يعدو دون توقف لإتمام عش الزوجية وتحضير الاحتفالات باليوم المنتظر، ورغم استغرابها الدائم من سكونه المعتاد ومن تمتمات امه الدائمة وهمسات اخوته الملحوظ الا انها لم تأبه ابداً فكل همها كان تأسيس عائلة خاصة بعد ان تجاوزت الخامسة والثلاثين، ولعل شعورها بالحاجة الى من يحمل الرسالة من بعدها ورغبتها باستمراريتها عبر طفل يلبي شعورها الطبيعي بالأمومة هو الذي جعلها تغض البصر عن كل تلك الغرابة التي كانت تحيط بذاك الزواج الذي ادخلها القفص بسرعةٍ غير اعتيادية!!
صعقها تيار الحقيقة بعد ليلتهما الاولى، وتوسلت اليه طالبة منه مراجعة الطبيب في كل فرصة هدوء سانحة بينهما، غير ان غروره الذكوري الاناني منعه من الاستجابة لرجائها المتكرر، وكان هذا دافعاً قوياً لنمو اسوار الاشواك والخلافات بينهما حتى انقطع حبل التواصل اخيراً بعد مرور عدة اشهر لم تخلُ من الشجارات وحتى العنف الجسدي احياناً فقد حاول اخفاء عجزه بلكماتٍ حقيرة لم تعينه على اسكات رغباتها ونداء روحها المكسورة ...
انه ليس رجلاً ولم يكن كذلك يوماً .. لا لعدم قدرته على القيام بواجباته الزوجية وحسب بل ورفضه للذهاب للعلاج ولعدم اكتراثه لأي جزء من معاناتها، لأنه لا يحترمها ..يشتمها، يضربها، يلعن قبور اجدادها، يعود ثملاً كل ليلة ويتركها كالكلبة تأكل لوحدها، تنام لوحدها ولا يسمح لها بالخروج الا لبيت اهلها ومتى شاء!
وأخيرا بدأت تفكر بالطلاق ملياً، لكن اشباح الافكار بدأت تطاردها ليل نهار فماذا سيقول الناس عنها بعد ان تتطلق ولم يمض على زواجها سوى بضعة شهور؟ وكيف ستدعها امها تواصل حياتها الطبيعية إن عادت اليها مطلقةً وهي القاسية التي رددت على مسامعها دوماً " ان المرأة عشر عورات فإن تزوجت ستر الزوج واحدة، واذا ماتت ستر القبر التسع عورات المتبقية"، اذن كيف ستواصل الحياة مع امرأة تؤمن بقول جائر كهذا؟
وكيف ستسلم من تحرشات شباب القرية ومضايقاتهم المتكررة لها؟ واي صديقة ستستقبلها في بيتها بعد ان تتطلق وهن اللاتي كن يغرن منها حتى قبل ان تتزوج وكن يخشين على ازواجهن منها فجمالها الفتان كان مغناطيسا يجذب أي رجل ! ثم ما الذي ستستطيع فعله في مجتمع متخلفٍ لا يرحم، خاصة انها لم تتعلم شيئا ولا تتقن أي صنعة باستثناء الطهي والواجبات المنزلية المعتادة، اضف الى كل ذلك انها تكاد تكون متأكدة ان زوجها لن يطلقها حتى لوتعلقت بحبال نجوم السماء نفسها !
هي افكارٌ دارت في محيط قلبها وعصرت نبضها عصراً لكن خوفها من نار المواجهة واعصار النبذ المتوقع ارغمها على تناسي الفكرة رغم كل الحرمان الذي تعيش به ومع كل ذلك فهي لم تسلم ابدا من لسان اقرباء زوجها وتلميحاتهم لها بأنها عاقر فأخلاقها النبيلة لم تسمح لها بفضح زوجها امام أي مخلوق كان فهي ذاقت مرار المجتمع كله باعتبار الموضوع فضيحة وأي فضيحة!!
وهذا كله دفعها للتفكير بطرق ملتوية لم تفكر بها يوما حتى لجأت اخيرا الى اقامة علاقة غير شرعية مع ابن الجيران الذي لم يبلغ السابعة عشرة بعد الى ان ضبطت اليوم بالجرم المشهود حين عاد زوجها من العمل ووجدها متلبسة في الفراش مع ابن الجيران فجن جنونه واستل سكين المطبخ وقام بقتلهما ثائراً لرجولةٍ لم يمتلكها يوماً، فانطلقت الاحتفالات وعلى صوت الزغاريد واذاعت امه في القرية خبر بحثها لابنها عن عروس بينما يقضي فترة حكمه المشرفة فصفقوا يا سادة يا كرام وزوجوه فهو" رجلٌ والرجالُ قليلُ "!

الأربعاء، ٣ ربيع الأول ١٤٣١ هـ


"غداً سأموت , فهل ينضمون الى قبري؟

"سيغضب ابي ويشعل علبة سجائره كلها امامي ويثور ويصرخ الى ما لانهاية ، ستلومني امي وتخاصمني ، سيحضر جدي عصاه ان كان لازال على قيد الحياة ويهيئ حفلة لضربي رغم اني حفيدته المدللة ، وتلتهمني الجارة القريبة كوجبة فطور دسمة في احاديثها وتنحرني على سيوف نميمتها ، وتنهض الجارة البعيدة من قيلولتها والتي لا اعرف اسمها حتى ، كي تضيف بعض البهارات الحارة على طبختها الدسمة كي تبدأ بتصدير منتوجها الفاخر ، وقد يحمل إمام البلد كتبه ناسياً تمشيط لحيته لشدة غضبه ويهم بالقدوم الى بيتي كي يكتمل مسلسل التحريض الازلي علي ، وليس هذا فحسب ، بل جميعهم سينصبون انفسهم آلهة تأمر بقتلي .. وكل هذا لمَ ؟ لأنني اريد ان اكون انا ، بفكري ، علمي ، لباسي، فني ، ورأيي .."

سألتُها :" إذن ، انت خائفة ، هل تخشين الموت؟"
قالت : " لا..لا ، بل اخشى الظلم ..!"
•- " وما هو الظلم برأيكِ ؟"
قالت :
"أن لا افعل ما اشاء وقتما اشاء وكيفما اشاء ، ان انهض في ساعة محددة وأنام في ساعة محددة ، ان آكل ما لا احب ، وألبس ما لا يعجبني ، وأصادق اشخاصاً من طائفتي لا غير ، ان اقول نعم على كل شيء ولا اجرؤ على نطق لا ، ان اظل محتملةً وزر الخطيئة الاولى على جسدي ثمناً للحماقة ، ان ادرس في جيل محدد واتزوج في عمر حددوه مسبقاً ، الظلم يا آنستي ان لا افكر ولا أشك حتى بوجود الاله نفسه ..ألم يبنِ ديكارت منهجاً فلسفياً كاملاً حول ذلك ؟
ألم يقل انك إن اردت ان تبحث عن الحقيقة فعليك ان تشك في كل شيء ؟ وتتوقف عن التقليد وتتحرر من القيود كي تميز بين الزائف والحقيقي ؟ وان تستعمل عقلك وحواسك ايضاً وتفكر وتتأمل ؟
الظلم يا آنستي هو ان لا اسأل المعلمة في الصف كيف ومتى ولماذا ؟ورجل الدين بأين هو اثباتك ؟ وكيف تكون متأكداً من معلوماتك ؟ ان اسجن كل عمري في بلدٍ ما دون التفكير بحمل حقيبتي واكتشاف العالم ، الا يحق لنا اكتشاف كوكبنا الذي نعيش عليه؟
الظلم ان ابتعد مجبرةً عن كل ما اجده ممتعاً وجميلاً فقط لأنهم يريدون ذلك ..
•- قلت :
" إذن انت توافقينني على ان " الاشياء الحلوة تجهض لأن كل اجهاض هو نتيجة حمل خارج رحم المنطق " ؟

•- نعم ..أجل ، ولكن ما هو المنطق ؟ انظري حولك ، هل يبدو لك أي شيء مما يجري حولك في العالم منطقياً ؟ بل يصح ان نسميه وهماً مفروضاً لا اكثر ولا اقل ..
•- إذن ، عزيزتي حتى متى تظلين معذبة ، وترددين بأن حياتك سجنٌ كبير تموتين داخله رويداً رويداً ؟ لماذا لا تحلقين ؟ لماذا تخشين التحليق حتى بمجرد حلم ؟ إن اجمل الطرق لاستيعاب الحياة هي في التمرد على موقعك الدائم وكرسيك الصغير حتى لو اضطررت للوقوف على رأسك وخسرت كل ما اعتقداه يوماً انه اعمدة حياتك وثوابتها !

ثوري ..ثوري ، ما فائدة البشر من حولك ان قيدوك وربطوك بسلاسلهم واسندوك مرغمةً الى جدار وهمي لا وجود له الا في عقولهم المتحجرة ؟ ماذا تجنين إن ربحت العالم وخسرت نفسك وأناك ورغباتك الدفينة ؟ ما معنى ان تعيشي كل حياتك ظناً منك ان كل ما لقنوك اياه منذ الصغر هو الصواب ، وان كل ما تقولينه وتؤمنين به هو الخطأ ؟ هل الكم هو من يحدد لنا ما هي الحقيقة ؟ هل لأنها اكثرية يجب ان تسجدي لها ؟ لم َ لا تفتحين عينيك ؟ لمَ لا تفكري ؟ هل حقاً كل ما جاء في كتب التاريخ صحيح ؟ ام ان التاريخ كُتبَ دوماً بيد المنتصر ، فصاغه كيفما شاء ؟
ماذا سيحصل لو فكرت بصوت مرتفع وأسمعت صوتك لكل العالم؟ ما الذي ستحصلين عليه ان ظللت صامتة سنيناً وطأطأت رأسك ؟ هل سيتغير العالم ؟
هل تنتظرين الميت كي يخرج من قبره ويعيد لك ترتيب الافكار والايام لك من جديد ؟
ما معنى ان يسجن المرء نفسه في قفص ارادي اسمه " إرادة الآخرين " ؟
لماذا تصرين على العيش تحت أشعة حمراء مزيفة؟ ألأنك كنت صفحة ورسموا عليك كل خربشاتهم وأوهامهم وتعقيداتهم ، وأنت رضيت ان تكوني نصاً مهترئاً تافهاً لا معنى له ، ولم يعد صالحاً حتى للتداول بين قطط الشوارع فحتى هذه عندما تحس بالضجر او الاجبار تحاول التملص واللجوء الى مكان اخر وفسحة مريحة تستطيع التنفس بها دون ان يزعجها احد ، فإذا ما كتب على الانسان البحث عن راحته و " هداة باله " فإذن سيظل مسافراً من محطة الى اخرى كل العمر ، ولا بأس ..لا بأس بذلك ، لكن ان يظل واقفاً مكانه ، فهذا ما لا يقبله عقل او قلب !

لا تمضغ رأيك او تدفن حزنك داخل روحك كل العمر ، فلتغنِ بصوتٍ عال حتى لو نشاز ، ولتفرش فرشة على الرصيف لتشعري بديناميكية الحياة البسيطة ، حتى متى ستظلين صنماً وتسمحين للآخرين بزج انفهم الافطس بكل شيء بحياتك ، واسألي نفسك :
"اذا رضيتُ ان اعيش بحسب قوانين الأعراف وقواعد المسموح و الممنوع ورأي الناس ، هل يا ترى عندما اموت غداً سينضمون الى قبري؟"
بصراحة ؟!
هذا الحوار دار بيني وبين نفسي .."فاعذروني إن نزفتُ بروقاً / يكتب الحر رأيه بالأظافر "!

جارتي عاهرة !

مذ فارقتني روحه الطاهرة ، بتُّ مدمنةً على استنشاق الوحدة ، بل وافرضها على دفاتري لتتلو بنبض سطورها آيات العزلة ، وترتل غربتها ترتيلاً جديداً لم اعرفه من قبل !
لقد كان صديقاً حميماً وحبيباً متلهفاً قبل ان يكون زوجاً مخلصاً ومحباً ، لكن يد القدر طائلة فقد استطاعت سرقته حتى حين كانت باقة التوليب نائمة على ذراعيه ، ولم تستفق إلا على كتف سيارةٍ مجنونة لُقنت لعبة الموت بسهولة ، فنام نومته الابدية وولى توليب حياتي معه !
يا لوقاحتها حقاً !
فأنا اضاجع حزني واستمرئ دموعي كل يوم ، وهي تضاجع عشرات الرجال في يومٍ واحد ، حتى انها لا تحاول اخفاء الامر ، فتثقب اذني بأصوات تعاركهم فوق السرير ليل نهار ..ثم الا تتعب ؟
وما بهم هؤلاء الحمقى ..فكيف يستطيعون الوصول الى تلك النشوة مع جسدٍ يدفعون لقاءه ؟
لا اعرف لماذا استأجر زوجي " رحمه الله" هذه الشقة؟ والى جانب هذه العاهرة تحديداً ، أتراه لم يكن يعرف بأمرها منذ البداية؟ ام انه كان احد زبائنها ؟ لا لا ..حاشا وكلا ..كيف يمكنني ان افكر بذلك ولم تمضِ على وفاته سنتان بعد..(صحيح اني قليلة اصل ) !

أذكر انه - رحمه الله- كان كريماً ، عطوفاً ، حتى انه كان يقيم مأدبة عشاء فاخرة للفقراء والمحتاجين في نهاية كل اسبوع ، ورغم امتعاضه الشديد من جارتنا هذه ، الا انه كان يدعو لها بالصلاح دوماً ، لكنني استغرب امرها كثيراً فهي لازالت شابة يافعة وجميلة وتستطيع البحث عن أي عمل آخر ، فلمَ اختارت ان تبيع جسدها بإرادتها (للي يسوى واللي ما يسوى ).. يبدو انها تبحث عن الكسب الوفير والسريع !
لكن وحتى لو كان كذلك ، فهذا ليس سبباً مقنعاً لتدوس على شرايين كرامتها في كل مرة تأوي الى الفراش مع احدهم !
ويا للعجب ..فكيف يختلف مفهوم الوقت بيننا ؟
فها هي تتجول في رحاب ايامها بين السرير والهدايا ، وتتناول الطعام في افخم المطاعم ، وترتدي افضل الماركات العالمية ، ويوماً تراها عائدة من باريس ، ومن روما في يومٍ آخر !
وحقاً انه لأمر مثير عندما ترتقي الاقنعة المزيفة بنا الى سماوات براقة وفسحات ارضية ملونة احياناً !
وبينما " هي" تعيش الحياة بطولها وعرضها في معظم الوقت ، فأنا اموت كل الوقت .. فمن يوم رحل مرغماً قبل اكثر من سنة وغدوت ارملةً في الثلاثين ، ارتدت روحي ملابس الحداد ، وراح فؤادي يتجول كل ليلةٍ بين قبور الذكريات ، فأدمنت كل طرق الهرب المشروعة وغير المشروعة لأنام ثملةً بعد عراكٍ طويل مع النفس والنجوم والجدران !
وحتى عندما يتنفس اليوم التالي فإني لا ابصر أي خيط من خيوط الشمس ، ستائري مغلقة دوماً ونوافذي تبتلع ضوء النهار كثقبٍ سوداء استبد بها نظامٌ ارضي اوتوماتيكي لسلب الحيوية من وجه الايام التي تمر كئيبة في قطار حياتي الذي يسير بسرعةٍ دون التوقف في أي محطة ، ولأي سبب كان !
البارحة فقط استطعت الخروج من باب الشقة والوقوف في الممر نفسه الذي يؤدي الى شقتها ، وبينما هبت نسمة النشوة لتذكري قبلته عند كل صباح ، استوقفني مشهد احدهم وهو يهرول الى شقتها بكل شهوته العطشى ، ورغماً عني فقد استطعت احصاء دخول اكثر من ثلاثة رجال اليها دفعة واحدة ، وقد لمحتها اكثر من مرةٍ متبرجةً وعارية ، تفتح الباب وتغلقه بكل قلة ادب ، حتى اني خجلت من نفسي وعدتُ الى ايوان شقتي العنُ كل القيم والمثاليات ، فأسب اخلاصي والمي معاً ، حتى فاجأتني انهار البكاء بفيضانها فوق وجنتي ، فبعده لم استطع ان ابدأ من جديد..
نظرتُ الى غرفة نومي البائسة بعد ان شربت كأسين من الويسكي وقررت اني لن ابرج واجمل وجه ليالي السوداء ، فهي ستمر شاءت ام ابت ، بصعلكتها او بأدبها ، ولمَ قد اتعب فقد صرت احس اني حفنةٌ من الغبار فوق هذا السرير ..

لقد ظللتُ اياماً بلياليها اغار من جارتي تارةً والومها تارةً اخرى ، فأتصارع بيني وبين نفسي في حلبة المسموح والممنوع ، والحلال والحرام ، فلا اعرف من الذي يكتب ..انا ام الحيرة نفسها هي التي تكتبني ؟
ورغم ان الساعة التي اكتب امامها عادةً كانت تتذمر من بطء مرور دقائقي قبل ان تحين لحظة ولادة النص ، فتلومني وتظل تنقر نقراً رهيباً بعقاربها فوق رأسي لتحرق اعصابي وافكاري معاً ، الا انها اجبرتني اليوم وبعد صراع اسبوعٍ كامل على حملها ورميها من الشباك ، والغريب اني سمعت تكسر عظامها ولم اسمع منها أي صراخٍ او شكوى ..فهل تراه الوقت يسخر منا بعدوه الدائم دون توقف؟ ومن منا الذي يلحق بالآخر؟
أما الآن ..فها انا اجد نفسي اكتب فوق الرصيف المحاذي لشقتي بعد ان طردتني صاحبة البيت بسبب شكاوى الجيران مني لسأمهم من نوبات جنوني الليلية ، ويا للعجب فقد طُردت جارتي لتلويثها سمعة الحي بأكمله كما ادعت صاحبة البيت ..وعندما سألتها عن السبب قالت :" كل هذا حصل ، لأنني كريمة واستقبل ضيوفي بحفاوة ، يا لهذا التخلف ! يبحثون عن قيم في عصرٍ مادي قتلنا القيم به خنقاً وبأيدينا ..فهل تدعين قلمك الاحمق وتأتين معي؟"
نظرتُ اليها باستغراب شديد ، حملتُ حقائبي ولوحت بيدي : تاكسي..تاكسسسسسي !

الاثنين، ١ ربيع الأول ١٤٣١ هـ

خذني معك

خذني معك
لجمهرةٍ من الألحان السعيدة
تتلوها الليالي..
من كتاب هواك
ودنيا من الحب..
ترسمها على جسد حياتي..
من رقة إصبعك!
خذني معك..
لأرضٍ تخلو من..
ظلم الأحبة..
وغدر الزمان..
ونفاق ذوي اللحى الطويلة..
وثغاء الجارة كل صباحٍ
وبخور أم حمدان
خذني معك..
لبلاد لا تبكي فيها..
عروبة الرابية..
لا…ولا تشتعل الدموع
بورود عيونٍ..
لحبيبة فقدت حبيبها..
حتى صارت حرائقها..
كالثيران تهيج كل ليلةٍ..
تدور في ساقية!
خذني معك..
لذاك الكوكب الأخضر..
الخالي من عهر القبيلة..
ودم السلالة المزيف..
تعال نرحل..
بنهدٍ يبسم مع نبضك..
وقبلةٍ من شفتي امرأة مثلي
تتسلق كاللبلاب ..
ارض خصرك !
خذني..خذني
من روحي المعذبة..
هذه التي لا تنام..
تثمل أحزاناً..
تغرق اياماً..
مع طيف حبيب..
من صوان
فأنا سئمت حروباً..
تدور على أصابعي..
من ظلال يديه
تقصفني..
حتى تفوح مني ..
كل ليلة..
رائحة احتراق الخيزران
" أريد أن انظف روحي"
من حرارة الصواعق..
من بارود جروحي..
وسوى ياقة قميصك..
لا اعرف دروباً
فهل تأخذني لأعيش بسلام؟

" الأمل هو حلم يمشي"

عندما تثاءبت الارضُ البارحةَ وغرقت بغروبٍ حزين ، بدت فناجين قهوتي من حولي مفزعةً كوجوه المجانين في ساعة غضب ، ورأيتُ بعض ملامح رفاقي الميتين ، فما قرأته من دراسات حديثة والتي تشير الى ان نصف مليون شخص يموتون سنوياً نتيجةً للانتحار ، كان سبباً كافياً لدب الرعب بين سطور اوراقي ، وتحرك اسطول الكلمات من ميناء تساؤلاتي ، فلمَ يقرر انسانٌ يتعمد بنور الشمس يومياً ان يترك هذه النعمة ليسكن وحيداً في ظلمةِ القبر الموحش ؟ ولمَ لا تقرر وردة ما ان تنتحر مثلاً ؟ فما ينزل على رأسها من كوارث بيئية لهو اشدُّ الماً مما قد يجول بخاطر أي انسانٍ من همٍ وحزنٍ وكدر !طرزتُ من الحيرةِ والتساؤلات كنزةً من الخربشات حتى امزقها بعد ذلك،فلعل شبح الكتابة يغيب عني..الا انني ذهلت لاكتشافي بأن هذه الكنزة لبست تفكيري وروحي معاً بدل ان البسها انا او حتى امزقها !وتذكرتُ ما قاله فرويد حينما عرف الانتحار على انه توجيه العدوانية الكامنة بالشخص ضد ذاته ، وقلتُ : " إذن ، لا عجب بأن يفكر أي احدٍ منا بالانتحار ذات يوم فقد يواجه ازمةً ليغدو مضطرباً ويفقد التوازن بين عالمه الواقعي وعالمه المنشود ، فقد يقرر ان يستقيل من هذا الكون بمحض ارادته كما " خليل حاوي" مثلاً ، ولتقديم هذه الاستقالة قد تكون هنالك دوافع عدة ، فهذا ينتحر بسبب فقدانه لمركزٍ مرموق ، وذاك يرحل نتيجةً لفقره المدقع ، وتلك تقرر ان ترمي بنفسها من الطابق العاشر لأن حبيبها قد هجرها.." تعددت الاسبابُ والموت واحدُ " ، لكن الغريب بالأمر هو ان عدد المنتحرين في ارتفاعٍ مستمر ، فهل وصلنا الى مرحلةٍ من الأسى والعجز الانساني يصعب العودة منها ، الهذا الحد أضحت الحياة سخيفةً ورخيصة ؟وهل هذا ما دفع الكاتبة والرائدة في الحركات النسائية في بريطانيا " فرجينيا وولف " الى الانتحار؟ أكانت مقتنعة بعدمية جدوى الحياة وعبثيتها؟لا ادري لماذا تعود بي عجلات الذاكرة مسرعةً نحو ايام صعبة قضيتها قبل فترة، لأتذكر فجأة اني اردت ان تكون كل ايامي ترنيمة فرحٍ وان تبتسم لي كل ورود الحديقة وحتى القطط في الشوارع !لكنني مررت بحالةٍ من الاحباط والكآبة جعلتني افقد الرغبة بفعل أي شيء باستثناء اوكسجيني المعتاد – القراءة- ، حتى وقعت رواية " السجينة" للكاتبة ميشيل فيتوسي " بين يدي والتي تحدثت خلالها عن عائلة " مليكة اوفقير " والتي سجنت وعائلتها بغرقٍ مظلمة تحت الأرض بسبب محاولات الانقلاب التي قادها ابوها ضد ملك المغرب " حسن الثاني " حيث عاشوا بين الفئران والحشرات ..بأقسى الظروف المعيشية مدة عشرين عاماً !وكل احداث الرواية الواقعية لا تساوي شيئاً امام حقيقة هروب العائلة التي لم تكن سوى نتيجة حفرهم لأنفاقٍ متواضعة ببعض الملاعق وأغطية علب التونة التالفة !وخلال قراءتي لهذه الرواية واطلاعي على ما تحتويه من تراجيديا انسانية وجدت انني بتُّ اخجل من نفسي ، فما هي تلك المشاكل الصغيرة التي قد تلقي بأغطية الكآبة على فِراش حياتنا؟ فلماذا لم تنتحر " مليكة" مثلاً وهي التي قتل ابوها بخمس رصاصاتٍ فأردته قتيلاً وسجنت تحت وطأة التعذيب والحرمان ، وكيف لم تفقد الامل خلال كل هذه السنين؟أجل ، هي ايقنت انها " اذا آمنت بالشيء ايماناً مطلقاً فسيتحرك نحوها " ولذا فقد استطاعت الهروب مع عائلتها والبدء من جديد.لم تكن هذه الرواية المميزة وحدها هي التي اثرت في من بين عشرات وعشرات الروايات التي قرأتها لكنها كانت من اكثرهم تأثيراً فقد استطعت استعادة توازني لأن الحياة تحتاج مجهوداً ذهنياً كبيراً وباستطاعة كل فردٍ منا ان يحول الالم واليأس الى املٍ وحرية ، وقد يكون "ريتشارد نيكسون" اكبر مثال على ذلك ، فقد بدأ حياته كعاملٍ في محطةٍ للبنزين لكنه كان يحلم بالعظمة والنجاح دائماً ، فالتحق بالجامعة وتخرج من كلية الحقوق حتى بات من انجح المحامين في الولايات المتحدة الأمريكية ، ليغدو في نهاية الامر رئيساً لأقوى دولة في العالم ، وان دل هذا على شيء فإنما يدل على قوة الإرادة والتكتيك الذكي .إن الروايات عديدة والامثلة كثيرة على مر التاريخ ، وكلها أدلة وبراهين على جمال وروعة الحياة نفسها ، وقد يكون العالم بات مجموعةً من النظريات المتناقضة التي تحكمها المصالح ، ليكون جيبك او حسابك المصرفي هو سيدك بها ، ولهذا ربما اضحت الحياة من اسخف ما يكون لدى الكثيرين ، نتيجة لقسوة ومرارة الحصول على لقمة العيش !لكن ، مهما كانت الحياة قاسية وصعبة سيكفيك انك انسان يحمل بين ضلوعه فؤاداً ينبض بالحياة والحب والطموح ، وكما قال الفيلسوف الاغريقي " ارسطو " : " يبقى الامل حلماً يمشي ويمشي ويمشي .."

الأحد، ٣٠ صفر ١٤٣١ هـ


الكتابة قادرة على فضح جرائم وأحداث لم تفضحها الصورة بعد!

الجمعة, 10 أفريل/أبريل 2009 بسام الطعان


كاتبة فلسطينية شابة، من مواليد 1987 ، تدرس الصحافة والإعلام كلية غور الأردن – إحدى فروع جامعة بار ايلان، عملت كمراسلة لشؤؤن عرب 48 لجريدة الأخبار المغربية وأيضا عملت كمذيعة لبرنامج ليلي في إذاعة الشمس الوطنية وكمعدة للتقارير الصحفية الأسبوعية، في بداية دراستها لهوايتها الطرب الأصيل،تكتب القصة القصيرة والمقالات الأسبوعية بالعديد من الصحف والمواقع العربية والمحلية وهي بصدد إصدار مجموعتها القصصية الأولى رغم ما يثار حولها من زوابع وأعاصير، فهي تعتبر كاتبة جميلة ومتمردة على كل الموروثات الثقافية والتقاليد العربية وتعمل على إصدار كاسيتها الغنائي الأول وكتابها أيضا، وبرنامجها التلفزيوني الفريد من نوعه والذي ستبثه على احد المواقع الالكترونية بعد رأس السنة الجديدة، تعرف بالذكاء والعفوية والنضوج الفكري وخفة الدم !
* كيف جئت إلى عالم الكتابة وكيف ترينه؟
- بصراحة، لستُ أنا من جاء إلى عالم الكتابة بل الحقيقة هي أن الكتابة هي من جاءت إلى بل واحتلتني أيضا ، ولكن حدث ذلك صدفة حينما كنت اشرد منذ صغري وأتأمل كثيرا فأبدأ الكتابة أثناء الدروس والحصص المدرسية، غير أن الألم الذي استبد بي بعد وفاة جدي الذي رباني ورعاني في صغري ، كان الدافع الأقوى قبل سنوات لأُعمق تجربتي أكثر فأكثر ، أما فكيف أراه..فهو بالنسبة لي حضن دافئ …لحظات تحرير الألم… مسرح جريمتي وملجأي الآمن الوحيد بنفس الوقت، ولا أرى الكتابة سوى محاولة لجعل العالم أجمل… محاولات للتغيير، وما الكتابة بنظري سوى استمرارية للإنسانية والحضارة البشرية، وأخشى على العالم إذا ما فقد إنسانه القدرة على الكتابة أو التخيل حتى !!
* من يقرأ كتاباتك يعيش التمرد والحزن، وبسرعة يتساءل لماذا هذه الكاتبة متمردة وحزينة؟
- هذا جيد ان من يقرأني يستطيع أن يعيش حالة التمرد، يسعدني ان لدي القدرة على أحياء حالة الهيجان والتمرد بالنص واعتقد ان حالة التمرد التي تتحدث عنها لدي تستمد نبضها من واقع حياتي فأنا بطبعي وبحياتي العادية ارفض “الموجود والموروث والمسلمات ومعدات الخدر”، لا أؤمن بالقيود، وربما أتعرض دائما للمضايقات والملاحقات وحتى النقد أحيانا بسبب هذا التمرد، غير أني راضية ولا آبه كثيرا، فلكل إنسان الحق باختيار نمط حياته، وكل كاتب يملك حريته المطلقة بفكره ونصه على حد سواء ، أما عن الحزن، فأنا أحاول دوماً إخفاء ذلك بصراحة ، ولكني أجد أن حساسيتي البالغة ومشاعري تفوقان مشاعر أي إنسان قد صادفته حتى الآن، لذا فانا احزن حتى لذبول الوردة في الشتاء ، وعلى ما يبدو فاضطهاد بلدي لي بسبب أفكاري المتمردة ومحاولات الإيذاء الكثيرة قد ولدت عندي نوع من الحزن الداخلي العميق، وطبعا لا استثني بعض التجارب الشخصية الصعبة التي مررت بها رغم صغر سني نسبيا، ثم كيف تريدني أن افرح يا عزيزي؟ والحزن ينخر حتى برغيف الخبز الفلسطيني وكيف سنفرح وهنالك مئات المظلومين والجرحى والأسرى والقتلى من حولنا ؟
* ما الذي يمنحك الحافز لإنجاز نص جديد؟
- هنالك عدة حوافز، وقد استمد إيحائي أو إلهامي حتى من مجرد لحن عابر، والغريب بالأمر أن لحظة الكتابة هي كلحظة ولادة الطفل والذي ترافقه الآلام والآمال معا، فهي لحظة لا نستطيع إيقافها وكأن هنالك بركان شعوري فكري لن يهدأ قبل ان ينفجر فوق الأوراق، وكل شيء من حولي بمثابة حافز، ولكن وعلى ما يبدو فان الألم هو أقوى الحوافز والدوافع لانجاز نص ما لدي، فإذا لم أتعذب أو حتى ابكي فلا اكتب !
* ما هي أمنياتك وأهدافك وما أهم قناعاتك التي تدافعين وتكتبين عنها ؟
- هنالك العديد من الأهداف والأماني التي أحاول أن أحققها من خلال الكتابة، فانا اطرح كل ما أؤمن به خاصة على الصعيد الشبابي فقد بتنا نرى وللأسف ان شبابنا رغم اعلمه ودخوله الجامعات لهو شباب لاهٍ، ضائع وتهمه الصورة والقشور، فنجده يولي مبتعداً عن الثقافة وكأنها شيء هامشي، أنا أحاول زرع روح النهضة والتحرر وردم العديد من عاداتنا وتقاليدنا البائسة خاصة تلك التي تخص المرأة ..أحاول أن أنادي بأعلى صوتي بالابتعاد عن الطائفية خاصة أن أعداءنا يتلذذون بشوينا باللحظة التي نختلف بها، وبصراحة يهمني جدا نشر أسس الأممية والابتعاد عن الأطر الدينية التي تقيد حريتنا كبشر، وهذا كله بالإضافة إلى إلقاء الضوء على العديد من مشاكلنا الاجتماعية، الفكرية والسياسية التي لا بد ان نفكر بها جدياً اكثر من أي وقت مضى …
* هل تستطيع الكتابة ان تفعل شيئاً في ظل الظلم والحصار والقتال المجاني ، أم أن هذا ليس دورها؟
- انه دور ها بعينه، فباستطاعة الأدب حمل القضية على أكتافه سنينا دون أن يتعب، فالكتابة قادرة على فضح جرائم وأحداث لم تفضحها الصورة بعد، وصحيح أن هنالك سلسلة من المشاكل التي قد ترافق الكتابة، إلا إننا لا نستطيع تجاهل أن التطور التكنولوجي والإنترنت… قد سهل الأمر على الأدباء، للكتابة دور كبير في توثيق الأحداث والجرائم على مدى الأيام ولكن دورها الأكبر يكمن بزرع الأمل في النفوس وإيصال الصوت المظلوم لكل من لم يسمع بهمه بعد !
* الأديب هو حنجرة الحقيقة والعصر، وأية عزلة عن مصادر إلهامه تؤدي بموهبته إلى العقم، لهذا لا يمكن للكاتب إلا يعي مشاكل مجتمعه الاجتماعية والسياسية ، ماذا تقولين في ذلك؟
- هذا صحيح فالأدب هو مرآة عصره، والصعوبة لدى الأدباء تكمن بمواكبة كل ما هو جديد على الساحة، والأصعب من ذلك هو ان يكون له خط وأسلوب يميزه وحده، لذا فالقراءة والمواكبة مهمة جدا، ولكن الأهم أيضا هو ان يستطيع الأديب دوما المحافظة على إشباع حياته الروحية، وان يكون حر بحياته وكتاباته على حد سواء، فالموهبة وحدها لا تكفي لبلوغ الهدف وإيصال الفكرة ، فالموهبة بحاجة إلى صقل ومتابعة !وإذا لم يكن الأديب قادرا على فهم مشاكل مجتمعه بحذافيرها وقادرا أيضا على عرضها وإيصاله للناس فكيف سيصدقه القارئ ويشعر بمرارة حبره؟
* كيف ترين واقع القصة القصيرة في فلسطين؟ افقها؟ ومدى ملائمتها لحركة الحياة العاصفة؟
- القصة القصيرة في فلسطين مرت بالعديد من التغييرات، فقصة سميرة عزام تختلف عن نجاتي صدقي والأسلوب يختلف عن غسان كنفاني لكن واقع الحال واحد، فكلنا يعلم أن فلسطين تأثرت دوما بالمشاكل السياسية عامة والاقتصادية خاصة، وواقع حالها جيد نسبة إلى وضع القصة في باقي البلاد العربية، فرغم كل شيء استطاعت القصة لدينا بالخروج بعض الشيء من عباءة الحاكم، وشتمت المحتل في عقر داره، لكن بالمقابل تحتاج القصة الفلسطينية اليوم لنوع من الإثارة والتحرير والخصوصية.
* كيف تفهمين القصة القصيرة وما هي شروطها لتكون ناجحة؟
- أنا أجد أن القصة القصيرة عبارة عن موقف حياتي قد يكون متخيلاً وقد يكون واقعيا اثر بنفس الكاتب فصاغه على شكل قصة كثيفة المعاني ومقتصدة اللفظ، لكن أهم شروط نجاحها حسب رأيي هو صدق اللغة والوصف الدقيق للإيحاء والحدث مما يعطي انسيابية المعاني والسرد .
* ما المطلوب من المرأة الفلسطينية كمبدعة وسط ما يجري، وهل من ظلم يلحقها كمبدعة؟
- المرأة الفلسطينية المبدعة مناضلة من الدرجة الأولى ، فهي الأم والزوجة والأخت والحبيبة معاً، والمبدعة مطالبة باستيعاب الجرائم اليومية ، مطالبة بالاتحاد مع ضميرها ومع أبناء شعبها مطالبة بنقل الصورة كما هي، أي أن مصاعبها تكمن بفهم العام وشرحه ثم التطرق إلى الخصوصيات وهذا ليس بالأمر السهل ، فالظلم الذي يلحق بها أنها مضطرة بالتضامن مع الألم قبل أن تفكر بالكتابة عن ذاتها وأفكارها وأحلامها!* فلسطين كوطن بزمانه ومكانه، ما حجمه بكتاباتك الإبداعية؟
- أولا فلسطين حاضرة في دمي وقلبي دوماً، وهي تنبض في أرواحنا، لكني ابنة الجليل ووضعنا كعرب 48 .. عرب الداخل هو وضع معقد وصعب للغاية فبه نتنازع على الولاء لشعبنا من جهة وعلى هويتنا العربية من جهة أخرى بالإضافة إلى دفاعنا عن حقوقنا كأقلية في ظل دولة يهودية وأحاول أن اشمل كل هذه الأمور من خلال كتاباتي خاصة بقصصي ومقالاتي الأسبوعية في جريدة “كل العرب” ومواقع الصحف المختلفة، فقد كتبت عن المخيم والطفل الفلسطيني ومشاكل الفتاة الفلسطينية المعاصرة، واعتبر نفسي لم اكتب شيئا بعد، فانا بصدد طباعة اول مجموعة قصصية خلال هذه السنة.
* كامرأة مبدعة، هل مسموح لك الاقتراب من الثالوث المحرم، ام ان الرقيب والمجتمع لا يسمحان بذلك؟
- أولا من أهم معاني الإبداع هو حرية الفكر ، فإذا لم يكن الكاتب شجاعا ومتمردا خصوصا الفتاة فلا حاجة لان تكتب فإما أن تعبر وأما لا، أما عن ثالوثك المحرم دين- جنس- سياسة فللأسف نحن شعب نثلث ونربع ونسدس أيضا لكن سؤالي بسيط ، من هذا الذي حرم الكتابة بهذه الأطر؟ وما مصلحته؟ أنا اكتب كل ما يهمني ويشغل فكري أن كان في الدين أو الجنس أو غيره وللقارئ حرية القبول أو النقد ، لكن السلطة الوحيدة التي أفكر بها عندما اكتب هي ضميري ولا شيء سوى ذلك !
* كلمة أخيرة :
- أشكرك كثيرا على هذا الحوار وأتمنى أن نبقى على تواصل دائم مع كل أخوتنا في العالم العربي ولا أتمنى من الله سوى إحلال السلام على كل أنحاء وطننا العربي وخاصة الفلسطيني.
حاورها: بسام الطعان

السبت، ٢٩ صفر ١٤٣١ هـ


غريبٌ في المحطة

ريحٌ باردة تبشر بولادة المطر بعد اشهر طويلة من عطش الارض الحزينة ، ونسماتها المشاكسة تتلاعب باطراف تنورتي القصيرة ، فتارة تطيرها فوق الركبة لتحلق عصافير احلامي معها بعيدا ، وتخطف فؤادي كطفلةٍ بريئة لاهية ، وتارةً تكون عاقلة وتعيد التنورة الى مكانها الطبيعي فوق سيقانٍ تعبت من المشي في محطات السفر التي لا تنتهي في حياتي المتأرجحة بين الموجود والمنشود ، بين عقلي وقلبي المتعاركين كديكين لا يتعبان من الشجار والصياح اليومي ، وبين استقبالي لوميض الغرباء في حنايا الروح وفراقي بنبضات تدق كالطبول الغاضبة ساخطةً لوداع كل من احببتهم ورحلوا باكراً ..
أقف في محطة الباص الذي نسي موعده على ما يبدو ، فقد طال انتظاري ، وآه كم اكره الانتظار ، فلا يساعدني في كظم غيظي وتحمل بطء سلحفاة الساعة سوى مذياعي الصغير الذي احمله اينما اذهب ، فيلقيني في شباك كوكب الشرق ، حين تقول :" أمل حياتي ..يا حب غالي ما ينتهيش يا احلى غنوة سمعها قلبي ..خد عمري كله ..بس النهار ده ..خليني اعيش "لينقلني الى عالمٍ يمازج الورد والنور معاً ، فأتوه في دروب الفرح ، واطقطق برجلي ، ادندن معها حنين الروح ، لأسير في موكب الاحساس غير منتبهةٍ لنظرات الناس الحشرية المتسائلة من حولي ، واستغرابهم لمدى انصياع فتاةٍ في مثل عمري الصغير نسبياً لأوامر الحانٍ يعتبرها البعض قديمة وتستحوذ على اهتمام (الجيل القديم) وحسب ، متناسين ان معنى الابداع هو سفر متواصل ونقش في الروح لا يعرف عمراً ابداً !
هبت ريح قوية على حين غرة ، فألقت بكتبي ارضاً بكل وقاحة لامتناهية ، غير مدركة ان احتضان هذه الكتب هو بمثابة احتضان ام لاولادها وغضبت كما لم اغضب من قبل، وانحنيت قليلاً لإنقاذهم ، فربت على كتفهم وكفكفت دموعهم ، ولم اكد انتهِ من ذلك حتى فاجأتني عيناه بنظرةٍ لم اجدها في أي وجهٍ من قبل ، كأنها شموس اذابت ثلوج روحي ، فانسابت اشعتها لأنعم بأنهارٍ تنعش دمي وتداعب خفقي بكل رمشةٍ جانية ..!
اختفت وجوه البشر من حولي ، كما لو انها صارت جثثاً من حولي ، او اشباحاً محلقة في طريقٍ غير طريقنا " نحن" !احتضنتُ ابنائي محاولةً الهروب من نظراته الثاقبة ، وقمتُ برفع صوت المذياع قليلاً ، فلعل ابحاري بين أمواج الموسيقى ينسيني تحديقه بي من رأسي حتى اخمص قدمي ..لكن تماساً روحياً اشعل فتيل اللهفة فيَّ ، ونزع كل الحواجز من بين ضلوعي ، وأنا التي اوصدتُ القلب واحكمت الاغلاق عليه بعد كل ما مررتُ به من لوعةٍ في الحب ، فقررت حمله كآلة ٍ تعينني على العيش لا اكثر ولا اقل !إذن : كيف اواجه هذا الهجوم الآن؟ وكيف استطاع فتح كل ابواب الفؤاد بنظرة واحدة؟ من هذا الغريب..ولمَ اعيره اهتماماً اصلا ؟كيف يستطيع اختراق اسوار مدني وحده من بين عشرات الرجال من حولي ؟( او الذين كانوا حولي )؟غريب..؟ لا ..لا انه ليس بغريب..!إذن من يكون؟ هل اعرفه؟ هل هو احد ابطال احلامي الليلية؟ لا..ربما..لا ادري..يا الهي ساعدني ..من هذا بحق السماء ؟؟هل هو حبيبٌ عشقتُه في حياتي السابقة وقرر العودة لينقذني من براثن الوحدة والغربة في حياتي الحالية؟لا..لا اعرف..كدت انفجر لفرط الحيرة ، وشارف النبض على الانتحار ! حتى اقترب قليلاً ووقف على الرصيف المقابل لمحطة الباص امامي مباشرة ورسم ابتسامةً لطيفة على وجهه الواقع بين لون التراب ونضارة القمح ، فأنقذ نبضي واوقد النار في اعصابي !
مرت الدقائق بسرعة ، ولم اشعر ان نصف ساعةٍ قد مضت ، وربما قد مرت الحافلة من امامي ولم ارها ....ماذا افعل؟هل اذهب لأكلمه؟ ماذا سأقول له؟ اني اعرفه؟ هل التقينا من قبل؟ ألن يفزع من جرأتي؟ ألن يضحك ويسخر مني؟ثم لماذا لا يجرأ هو على محادثتي؟ فتحديداً هنا تكثر تحرشات الشباب بالجميلات وغير الجميلات ..هل سيلقنني درساً في الاخلاق الآن؟ فليأتِ وبعدها يتذكر آداب الطريق والحديث والتعامل ..تباً ، انها المرة الاولى في حياتي التي اكره بها كل قوانين الاتيكيت وأصول التعامل والتعارف بين الناس ..حقاً اني قليلة ادب !لا ..والف لا ، لن اذهب اليه ، ولن اتحدث معه ، من يظن نفسه ..هل هو دنجوان عصره لترتمي النساء عند قدميه طالبةً الحب والرضا ؟لن اذهب ( ولتنفلق روحه..لا آبه !)نظرتُ في ساعتي مصرةً على اظهار عدم اكتراثي لوجوده وإذ بي قد تأخرت على موعدي ، وحين عزمت على الذهاب مشياً على الاقدام فإذ بالدنيا تمطر ، تبرقُ وترعد ، فظل يقترب رويدا رويدا حتى وقف امامي تماماً ، لا مسافة بيننا سوى بُعد انفاس وقبلة ، نظر في عيني ، حدق وحدق طويلاً، ولم اعرف ما الذي اعتراني فقد قيدني باجتياحه المفاجئ وقيد كل تحركاتي حتى اني ابتلعت الكلام بلعاً وتجمدت الدماء في عروقي فجأة ..ياااااه..لأول مرة في حياتي اقابل شخصاً واتمنى مباغتته بعناقٍ حار وبكاء فاضح شارحة له كل عذاب سنيني بسبب نظرة لا غير..وفي خضم كل حيرتي وارتباكي ، خلع جاكيته الجلدي ،وضعه على كتفي ، رسم ابتسامته الساحرة تلك واسرع الى الطرف المقابل للشارع بعد ان بللته الامطار كعصفور صغير ، ركب سيارته ، ادار المحرك ، ظل محدقا بي ، لوح بيده وغاب بعيداً..
كان هذا منذ شهرين ، الا ان نوبةً جنونية تعتريني في مساء كل يوم جمعة ، لأجد نفسي واقفة في المحطة ذاتها ، كمدمنة تنتظر وجبة مخدرات ثقيلة ، دون ان اعلم ان كنت سأحصل عليها ام لا ، لكنني متأكدة اني اعرفه ..فعيناه لا تفارقان خيالي ولو للحظة !ليس بغريب ..اقسم اني اعرفه ، وحياة مريم العذراء اني اعرفه !

رسالة إلى ابي ...

من هؤلاء الذين يلفون حبل المشنقة..
حول عنق دفاتري..
ويتدربون على الرقصة الاخيرة..
فوق قبر محابري ؟
أهولاء هم اعداء الفكر.. ام اقاربي؟؟

يا ليتك وأدتني يا ابي..
قبل ان يحاصرني رجال القبيلة ..
ودثرتَ ضلوعي بورد حديقتكَ
وأمطرت عيناك ..
بكرةً وأصيلا..
لن اغضب..
وسأكتم صراخي ..
ربما احزن..
ربما احس بالبرد قليلا..
لكن عزائي الوحيد هناك..
ان عينيك ستضيئان ..
شموساً في ذاكرتي..
لتنيرَ وجهك الجميلَ !!
يا ليتك وأدتني يا ابي..
فبعض النساء في قريتي..
لاحقن تنورتي..
ومشينَ خلف آثار "كعبي العالي"
وخطفنَ بلؤمٍ فراش غفوتي..
وأنا ما كنت سأرتدي فساتيني..
وأحمّلك هم جنوني ..
فيا ليتك اختزلت من قاموس عمري المر سنيني !

أردتني حمامةً بيضاء..
تعبث بالعقاقير..
وتحمل هم الحقن في المستشفيات..
اما انا..
فقد اردت رسم عالم لي وحدي..
وألونه بكل الواني..
فالأسود والابيض شبحان يرقصان ..
في احلام كتبي..
فلماذا سمعتهم ونسيتني
وحملتني مسؤؤلية قدومي لهذا العالم القذرِ
ما كانت الوردة مسؤؤلة يوماً..
عن لونها..
وعطرها..
وعدد فراشاتها ..
فلمَ اردتني نسخةً بالكربون عنك..
وعن ابيك..
وجدك
وجد جدك؟
لدي كتابي..
سحري..
وفكري
فهلا اعتقت من براثن الشكوك حبري؟
وفككت ضفائري ..
من قبضة ما يتلوه شيخ القرية..
علي القنه بعضا من شعري!!

لقد احببت بيتك يا ابي..
وطيبتك..
وقبلتك المسائية ..
بل ورائحة التبغ في قمصانك..
وأحببتك ..
وأحببتك !!
لكن فيضان الحزن في جروحي اغرقني
وقتل روحي
فرجائي
أن ضمني بأحلامك قليلاً..
فهناك سأظل دوماً غريبة..
ولن يحضنني سوى الغرباء !

"عجمي" - برتقالُ الماضي وهويةٌ مستقبليةٌ ضائعة!

ربما تحتاج يوماً أو يومين لتستوعب ما رأيته بعيني قلبك, وربما ستثور بعد نزول الستار مباشرة وتود لاارادياً ان تكسر كل ما ستصادفه من حولك بعد متابعة هذا الفيلم الذي يصب مباشرة في بحر واقعنا نحن عرب 48 – العرب الفلسطينيين القابضين على هويتنا الفلسطينية كالقابض على جمرةٍ في الفؤاد خوفاً عليها من الضياع , واقع عروبتنا المقتولة في الصميم والمعلقة فوق عتبة دولةٍ نسكنها , نتحدث بلغتها العبرية الى جانب العربية كي نواصل العيش فنحمل هويتها الملونة بالازرق ونطل بفيلم يحمل عنوان " عجمي" الذي سيمثل اسرائيل في الاوسكار لا دور دولة فلسطينية لم تقم بعد , كونه نال جائزة "أوفير" الاسرائيلية والجائزة التكريمية في مهرجان كان السينمائي والجائزة الاولى في مهرجان القدس السينمائي .
فيلم " عجمي" هو فيلم مفخخٌ بالآلام المنسية والذكريات المؤلمة , عابقٌ بجروح لن يداويها أي زمن قادم , فهو يسرد حكاية" عجمي " وهو من آخر الاحياء العربية في مدينة يافا التي هودت تماماً وقد يخيب ظن آلاف المشاهدين لهذا الفيلم الذي يصف احد اكبر المدن الثقافية والتي طُبعت في اذهان آلاف الآلاف من الفلسطينيين وظلت في ذاكرتهم تلك المدينة الجميلة المليئة ببيارات البرتقال ,بيدَ ان الفيلم جاء ليصف وضعها بعد النكبة بستين عاماً حيث تحولت الى احياء فقيرة يطوف بها عزرائيل متمختراً بعد كل جريمةٍ تحدث !!
يكتسب الفيلم مميزات خاصة جداً فممثلي الفيلم هم سكان الحي نفسه ولم يسبق لأحد منهم التمثيل من قبل ويعتبر اسكندر قبطي مخرج الفيلم قد نجح بإيصال صورة الحي على حقيقتها (دون أي رتوش) خاصةً انه من سكان الحي نفسه ايضاً ويعيش آلام وآمال شبابه الذين باتوا شباباً بلا احلام او طموحات , يعيشون تحت عباءة الجريمة والبطالة رغماً عنهم .
ينقسم الفيلم إلى خمسة فصول او قصص صغيرة مركبة داخل حكاية واحدة تطرح عدة احداث وتعالج من خلالها قضايا الفقر- البطالة- الجريمة-الوشاية – الطائفية والهوية الضائعة وقد نستطيع تقسيم الفيلم الى قسمين ايضاً جزء يعالج الجانب الفلسطيني وجزء آخر يعالج الجانب الاسرائيلي .
يعيش "عمر" حالة خوف وهلع شديد بعد ان اقدم عمه على قتل احد الاشخاص من احدى العائلات الكبيرة التي تأثر وتنتقم من العم ولا يشفي غليلها انهم اصابوه وأضحى مقعداً بسببهم لا بل تلاحق شباب عائلة عمر كلها وعلى عمر ان يدفع مبلغاً كبيراً من المال للمصالحة مع العائلة وتتداخل الاحداث مع بعضها البعض وتظهر شخصيات اخرى تمثل دور الوشاية و اخرى تطرح قضية الطائفية بين الاسلام والمسيحية وليس هذا فحسب بل وتدخل الشرطة الإسرائيلية الصورة بملاحقتها لأحد الشباب المتاجرين بالمخدرات والذي ساعده سكان العجمي بالهرب وتظل نهاية الفيلم مفاجأة كبيرة للجميع!!
من يشاهد الفيلم يلاحظ بعض الإشارات والاسئلة التي تشكل علامات استفهام كبيرة لدينا ,فلماذا يتوصل الضابط الإسرائيلي الى الاستنتاج بأن عرب 48 يكرهونهم ولماذا يظلون بحيرةٍ دائمة بين وطنيتهم وانتمائهم الفلسطيني وعدم احساسهم بالانتماء لمؤسسات الدولة الاسرائيلية؟ وهل يا ترى يصف الفيلم تمزق شباب "العجمي" نفسياً فقط؟ ام هو تمزق يعيشه معظم عرب48 ؟ وهل يوصلهم الحال للوشاية ببعضهم وهم اخوةٌ في العروبة من فراغ ؟ ام نتيجة ضغط حياتي كبير لتحصيل لقمة العيش؟ وهل نتوصل الى نتيجة واحدة بأن مشكلة عرب48 وخصوصاً يافا هي مشاكل اجتماعية وحسب؟ ام انهم يعيشون حرباً نفسية سياسية ايدلوجية دائمة حتى بأتفه تفاصيل حياتهم؟
هي اسئلة كثيرة تتفرع الى عشرات الاسئلة الاخرى والتي لا امتلك اجابات قطعية عليها كما شعوري المشوش تماما بعد مشاهدة الفيلم , ولكن وبلا شك يظل فيلم عجمي فيلماً رائعاً يستحق مخرجه وممثليه كل الشكر والتقدير , ويبقى هذا الفيلم مميزاً لا لأنه يمثل اسرائيل في الأوسكار وانما لأنه يلقي بضوء كبير على زمرة كبيرة من واقع حياة اقليتنا العربية داخل الدولة العبرية والتي قد تكون مجهولة لدى اشقائنا العرب في الاقطار العربية المختلفة , وفتح اعيننا على هذا الحي الوحيد الممزق في يافا المنسية ,ولأنه فيلم ناجح سينمائياً رغم شح الميزانيات التي تدعم صناعتنا المحلية, فإلى الامام اسكندر قبطي ,نعتز بكم .