السبت، ٢٩ صفر ١٤٣١ هـ


غريبٌ في المحطة

ريحٌ باردة تبشر بولادة المطر بعد اشهر طويلة من عطش الارض الحزينة ، ونسماتها المشاكسة تتلاعب باطراف تنورتي القصيرة ، فتارة تطيرها فوق الركبة لتحلق عصافير احلامي معها بعيدا ، وتخطف فؤادي كطفلةٍ بريئة لاهية ، وتارةً تكون عاقلة وتعيد التنورة الى مكانها الطبيعي فوق سيقانٍ تعبت من المشي في محطات السفر التي لا تنتهي في حياتي المتأرجحة بين الموجود والمنشود ، بين عقلي وقلبي المتعاركين كديكين لا يتعبان من الشجار والصياح اليومي ، وبين استقبالي لوميض الغرباء في حنايا الروح وفراقي بنبضات تدق كالطبول الغاضبة ساخطةً لوداع كل من احببتهم ورحلوا باكراً ..
أقف في محطة الباص الذي نسي موعده على ما يبدو ، فقد طال انتظاري ، وآه كم اكره الانتظار ، فلا يساعدني في كظم غيظي وتحمل بطء سلحفاة الساعة سوى مذياعي الصغير الذي احمله اينما اذهب ، فيلقيني في شباك كوكب الشرق ، حين تقول :" أمل حياتي ..يا حب غالي ما ينتهيش يا احلى غنوة سمعها قلبي ..خد عمري كله ..بس النهار ده ..خليني اعيش "لينقلني الى عالمٍ يمازج الورد والنور معاً ، فأتوه في دروب الفرح ، واطقطق برجلي ، ادندن معها حنين الروح ، لأسير في موكب الاحساس غير منتبهةٍ لنظرات الناس الحشرية المتسائلة من حولي ، واستغرابهم لمدى انصياع فتاةٍ في مثل عمري الصغير نسبياً لأوامر الحانٍ يعتبرها البعض قديمة وتستحوذ على اهتمام (الجيل القديم) وحسب ، متناسين ان معنى الابداع هو سفر متواصل ونقش في الروح لا يعرف عمراً ابداً !
هبت ريح قوية على حين غرة ، فألقت بكتبي ارضاً بكل وقاحة لامتناهية ، غير مدركة ان احتضان هذه الكتب هو بمثابة احتضان ام لاولادها وغضبت كما لم اغضب من قبل، وانحنيت قليلاً لإنقاذهم ، فربت على كتفهم وكفكفت دموعهم ، ولم اكد انتهِ من ذلك حتى فاجأتني عيناه بنظرةٍ لم اجدها في أي وجهٍ من قبل ، كأنها شموس اذابت ثلوج روحي ، فانسابت اشعتها لأنعم بأنهارٍ تنعش دمي وتداعب خفقي بكل رمشةٍ جانية ..!
اختفت وجوه البشر من حولي ، كما لو انها صارت جثثاً من حولي ، او اشباحاً محلقة في طريقٍ غير طريقنا " نحن" !احتضنتُ ابنائي محاولةً الهروب من نظراته الثاقبة ، وقمتُ برفع صوت المذياع قليلاً ، فلعل ابحاري بين أمواج الموسيقى ينسيني تحديقه بي من رأسي حتى اخمص قدمي ..لكن تماساً روحياً اشعل فتيل اللهفة فيَّ ، ونزع كل الحواجز من بين ضلوعي ، وأنا التي اوصدتُ القلب واحكمت الاغلاق عليه بعد كل ما مررتُ به من لوعةٍ في الحب ، فقررت حمله كآلة ٍ تعينني على العيش لا اكثر ولا اقل !إذن : كيف اواجه هذا الهجوم الآن؟ وكيف استطاع فتح كل ابواب الفؤاد بنظرة واحدة؟ من هذا الغريب..ولمَ اعيره اهتماماً اصلا ؟كيف يستطيع اختراق اسوار مدني وحده من بين عشرات الرجال من حولي ؟( او الذين كانوا حولي )؟غريب..؟ لا ..لا انه ليس بغريب..!إذن من يكون؟ هل اعرفه؟ هل هو احد ابطال احلامي الليلية؟ لا..ربما..لا ادري..يا الهي ساعدني ..من هذا بحق السماء ؟؟هل هو حبيبٌ عشقتُه في حياتي السابقة وقرر العودة لينقذني من براثن الوحدة والغربة في حياتي الحالية؟لا..لا اعرف..كدت انفجر لفرط الحيرة ، وشارف النبض على الانتحار ! حتى اقترب قليلاً ووقف على الرصيف المقابل لمحطة الباص امامي مباشرة ورسم ابتسامةً لطيفة على وجهه الواقع بين لون التراب ونضارة القمح ، فأنقذ نبضي واوقد النار في اعصابي !
مرت الدقائق بسرعة ، ولم اشعر ان نصف ساعةٍ قد مضت ، وربما قد مرت الحافلة من امامي ولم ارها ....ماذا افعل؟هل اذهب لأكلمه؟ ماذا سأقول له؟ اني اعرفه؟ هل التقينا من قبل؟ ألن يفزع من جرأتي؟ ألن يضحك ويسخر مني؟ثم لماذا لا يجرأ هو على محادثتي؟ فتحديداً هنا تكثر تحرشات الشباب بالجميلات وغير الجميلات ..هل سيلقنني درساً في الاخلاق الآن؟ فليأتِ وبعدها يتذكر آداب الطريق والحديث والتعامل ..تباً ، انها المرة الاولى في حياتي التي اكره بها كل قوانين الاتيكيت وأصول التعامل والتعارف بين الناس ..حقاً اني قليلة ادب !لا ..والف لا ، لن اذهب اليه ، ولن اتحدث معه ، من يظن نفسه ..هل هو دنجوان عصره لترتمي النساء عند قدميه طالبةً الحب والرضا ؟لن اذهب ( ولتنفلق روحه..لا آبه !)نظرتُ في ساعتي مصرةً على اظهار عدم اكتراثي لوجوده وإذ بي قد تأخرت على موعدي ، وحين عزمت على الذهاب مشياً على الاقدام فإذ بالدنيا تمطر ، تبرقُ وترعد ، فظل يقترب رويدا رويدا حتى وقف امامي تماماً ، لا مسافة بيننا سوى بُعد انفاس وقبلة ، نظر في عيني ، حدق وحدق طويلاً، ولم اعرف ما الذي اعتراني فقد قيدني باجتياحه المفاجئ وقيد كل تحركاتي حتى اني ابتلعت الكلام بلعاً وتجمدت الدماء في عروقي فجأة ..ياااااه..لأول مرة في حياتي اقابل شخصاً واتمنى مباغتته بعناقٍ حار وبكاء فاضح شارحة له كل عذاب سنيني بسبب نظرة لا غير..وفي خضم كل حيرتي وارتباكي ، خلع جاكيته الجلدي ،وضعه على كتفي ، رسم ابتسامته الساحرة تلك واسرع الى الطرف المقابل للشارع بعد ان بللته الامطار كعصفور صغير ، ركب سيارته ، ادار المحرك ، ظل محدقا بي ، لوح بيده وغاب بعيداً..
كان هذا منذ شهرين ، الا ان نوبةً جنونية تعتريني في مساء كل يوم جمعة ، لأجد نفسي واقفة في المحطة ذاتها ، كمدمنة تنتظر وجبة مخدرات ثقيلة ، دون ان اعلم ان كنت سأحصل عليها ام لا ، لكنني متأكدة اني اعرفه ..فعيناه لا تفارقان خيالي ولو للحظة !ليس بغريب ..اقسم اني اعرفه ، وحياة مريم العذراء اني اعرفه !

رسالة إلى ابي ...

من هؤلاء الذين يلفون حبل المشنقة..
حول عنق دفاتري..
ويتدربون على الرقصة الاخيرة..
فوق قبر محابري ؟
أهولاء هم اعداء الفكر.. ام اقاربي؟؟

يا ليتك وأدتني يا ابي..
قبل ان يحاصرني رجال القبيلة ..
ودثرتَ ضلوعي بورد حديقتكَ
وأمطرت عيناك ..
بكرةً وأصيلا..
لن اغضب..
وسأكتم صراخي ..
ربما احزن..
ربما احس بالبرد قليلا..
لكن عزائي الوحيد هناك..
ان عينيك ستضيئان ..
شموساً في ذاكرتي..
لتنيرَ وجهك الجميلَ !!
يا ليتك وأدتني يا ابي..
فبعض النساء في قريتي..
لاحقن تنورتي..
ومشينَ خلف آثار "كعبي العالي"
وخطفنَ بلؤمٍ فراش غفوتي..
وأنا ما كنت سأرتدي فساتيني..
وأحمّلك هم جنوني ..
فيا ليتك اختزلت من قاموس عمري المر سنيني !

أردتني حمامةً بيضاء..
تعبث بالعقاقير..
وتحمل هم الحقن في المستشفيات..
اما انا..
فقد اردت رسم عالم لي وحدي..
وألونه بكل الواني..
فالأسود والابيض شبحان يرقصان ..
في احلام كتبي..
فلماذا سمعتهم ونسيتني
وحملتني مسؤؤلية قدومي لهذا العالم القذرِ
ما كانت الوردة مسؤؤلة يوماً..
عن لونها..
وعطرها..
وعدد فراشاتها ..
فلمَ اردتني نسخةً بالكربون عنك..
وعن ابيك..
وجدك
وجد جدك؟
لدي كتابي..
سحري..
وفكري
فهلا اعتقت من براثن الشكوك حبري؟
وفككت ضفائري ..
من قبضة ما يتلوه شيخ القرية..
علي القنه بعضا من شعري!!

لقد احببت بيتك يا ابي..
وطيبتك..
وقبلتك المسائية ..
بل ورائحة التبغ في قمصانك..
وأحببتك ..
وأحببتك !!
لكن فيضان الحزن في جروحي اغرقني
وقتل روحي
فرجائي
أن ضمني بأحلامك قليلاً..
فهناك سأظل دوماً غريبة..
ولن يحضنني سوى الغرباء !

"عجمي" - برتقالُ الماضي وهويةٌ مستقبليةٌ ضائعة!

ربما تحتاج يوماً أو يومين لتستوعب ما رأيته بعيني قلبك, وربما ستثور بعد نزول الستار مباشرة وتود لاارادياً ان تكسر كل ما ستصادفه من حولك بعد متابعة هذا الفيلم الذي يصب مباشرة في بحر واقعنا نحن عرب 48 – العرب الفلسطينيين القابضين على هويتنا الفلسطينية كالقابض على جمرةٍ في الفؤاد خوفاً عليها من الضياع , واقع عروبتنا المقتولة في الصميم والمعلقة فوق عتبة دولةٍ نسكنها , نتحدث بلغتها العبرية الى جانب العربية كي نواصل العيش فنحمل هويتها الملونة بالازرق ونطل بفيلم يحمل عنوان " عجمي" الذي سيمثل اسرائيل في الاوسكار لا دور دولة فلسطينية لم تقم بعد , كونه نال جائزة "أوفير" الاسرائيلية والجائزة التكريمية في مهرجان كان السينمائي والجائزة الاولى في مهرجان القدس السينمائي .
فيلم " عجمي" هو فيلم مفخخٌ بالآلام المنسية والذكريات المؤلمة , عابقٌ بجروح لن يداويها أي زمن قادم , فهو يسرد حكاية" عجمي " وهو من آخر الاحياء العربية في مدينة يافا التي هودت تماماً وقد يخيب ظن آلاف المشاهدين لهذا الفيلم الذي يصف احد اكبر المدن الثقافية والتي طُبعت في اذهان آلاف الآلاف من الفلسطينيين وظلت في ذاكرتهم تلك المدينة الجميلة المليئة ببيارات البرتقال ,بيدَ ان الفيلم جاء ليصف وضعها بعد النكبة بستين عاماً حيث تحولت الى احياء فقيرة يطوف بها عزرائيل متمختراً بعد كل جريمةٍ تحدث !!
يكتسب الفيلم مميزات خاصة جداً فممثلي الفيلم هم سكان الحي نفسه ولم يسبق لأحد منهم التمثيل من قبل ويعتبر اسكندر قبطي مخرج الفيلم قد نجح بإيصال صورة الحي على حقيقتها (دون أي رتوش) خاصةً انه من سكان الحي نفسه ايضاً ويعيش آلام وآمال شبابه الذين باتوا شباباً بلا احلام او طموحات , يعيشون تحت عباءة الجريمة والبطالة رغماً عنهم .
ينقسم الفيلم إلى خمسة فصول او قصص صغيرة مركبة داخل حكاية واحدة تطرح عدة احداث وتعالج من خلالها قضايا الفقر- البطالة- الجريمة-الوشاية – الطائفية والهوية الضائعة وقد نستطيع تقسيم الفيلم الى قسمين ايضاً جزء يعالج الجانب الفلسطيني وجزء آخر يعالج الجانب الاسرائيلي .
يعيش "عمر" حالة خوف وهلع شديد بعد ان اقدم عمه على قتل احد الاشخاص من احدى العائلات الكبيرة التي تأثر وتنتقم من العم ولا يشفي غليلها انهم اصابوه وأضحى مقعداً بسببهم لا بل تلاحق شباب عائلة عمر كلها وعلى عمر ان يدفع مبلغاً كبيراً من المال للمصالحة مع العائلة وتتداخل الاحداث مع بعضها البعض وتظهر شخصيات اخرى تمثل دور الوشاية و اخرى تطرح قضية الطائفية بين الاسلام والمسيحية وليس هذا فحسب بل وتدخل الشرطة الإسرائيلية الصورة بملاحقتها لأحد الشباب المتاجرين بالمخدرات والذي ساعده سكان العجمي بالهرب وتظل نهاية الفيلم مفاجأة كبيرة للجميع!!
من يشاهد الفيلم يلاحظ بعض الإشارات والاسئلة التي تشكل علامات استفهام كبيرة لدينا ,فلماذا يتوصل الضابط الإسرائيلي الى الاستنتاج بأن عرب 48 يكرهونهم ولماذا يظلون بحيرةٍ دائمة بين وطنيتهم وانتمائهم الفلسطيني وعدم احساسهم بالانتماء لمؤسسات الدولة الاسرائيلية؟ وهل يا ترى يصف الفيلم تمزق شباب "العجمي" نفسياً فقط؟ ام هو تمزق يعيشه معظم عرب48 ؟ وهل يوصلهم الحال للوشاية ببعضهم وهم اخوةٌ في العروبة من فراغ ؟ ام نتيجة ضغط حياتي كبير لتحصيل لقمة العيش؟ وهل نتوصل الى نتيجة واحدة بأن مشكلة عرب48 وخصوصاً يافا هي مشاكل اجتماعية وحسب؟ ام انهم يعيشون حرباً نفسية سياسية ايدلوجية دائمة حتى بأتفه تفاصيل حياتهم؟
هي اسئلة كثيرة تتفرع الى عشرات الاسئلة الاخرى والتي لا امتلك اجابات قطعية عليها كما شعوري المشوش تماما بعد مشاهدة الفيلم , ولكن وبلا شك يظل فيلم عجمي فيلماً رائعاً يستحق مخرجه وممثليه كل الشكر والتقدير , ويبقى هذا الفيلم مميزاً لا لأنه يمثل اسرائيل في الأوسكار وانما لأنه يلقي بضوء كبير على زمرة كبيرة من واقع حياة اقليتنا العربية داخل الدولة العبرية والتي قد تكون مجهولة لدى اشقائنا العرب في الاقطار العربية المختلفة , وفتح اعيننا على هذا الحي الوحيد الممزق في يافا المنسية ,ولأنه فيلم ناجح سينمائياً رغم شح الميزانيات التي تدعم صناعتنا المحلية, فإلى الامام اسكندر قبطي ,نعتز بكم .