الاثنين، ١٣ ذو الحجة ١٤٣٣ هـ

انا وهي وجسدي

في بيتي ركنٌ صغير تجلسُ في حضنه طاولةٌ من عهد الإنجليز ربما..وعلى ظهرها تحمل تلفازاً صغيراً لا افتحه إلا نادراً، ربما كي احس ان احدهم يتواجد معي في البيت احياناً ، فلا اسمع صدى روحي ،ليس خوفاً منه بل من كوابيسه.. ربما هي العلاقة هكذا بيننا وبين الماضي.. طاولة الإنجليز تحمل في اوردتها ذكريات ثوارٍ كانوا رجالاً ضد القهر والاحتلال بكل ما تحمله الكلمة من معنى ويندر وجودهم في هذه الأيام، والتلفاز يصوّر لعقلي ان ثمة عوالم اخرى حتى وان كانت غارقة في الكذب، لعلها تخرجني قليلاً من قارورة احلامي الوردية ! هكذا هو الماضي: بابٌ حديدي يتعربشه الصدأ.. لأن التينة تتذكر ملامحنا جيداً ، ودالية العنب وشمت صورنا على كفوفها ! نحن لا نأتي من الفراغ... لنا قلوبنا النازحة تحت صوّان الطفولة، لنا اصدقاء احببناهم وبناية جمعيةٍ احتضنت صدى اصواتنا مع عودٍ يغني اوجاعنا ويحوّلها الى ترنيمةٍ سماوية.. لنا رصيف امتلأ ندوباً وتحمل وقع خطانا على وجهه،ولم نسمعه يتذمر او يعترض.. لنا صوت بائعٍ في السوق القديم كان "يدلّل" على بضاعته ليذيب العاطفة فينا الى ادواتٍ منزلية نحوّلها الى مزاميرٍ تلحن شجارات بيوتنا المعتادة بعدها.. لنا كتب مدرسية يرفضون تزيينها بحميميةٍ درويشية لا لشيء الا لأنهم يخافون من دمعة قلبه.. لنا عائلات ومنازل مشققة السطوح وقرى اعتلت صفحة سنابلها اليابسة كل انواع الجنادب الضالة .. لنا اطفال تضيع خطاهم بين وطن منكوب ودولةٍ تتعربش على العابهم بإسم القانون المفصل على مقاساتهم وحدهم.. لنا لغة وتراث ونكبات وصورٌ ملّها الغبار.. لنا ولنا ولنا.. ماذا كان لي مما كان "لنا"؟ وماذا سيصير لي مما سيكون؟ لست ادري.. ففي التاسع والعشرين من هذا الشهر سأفتح باب الحياة من جديد، وسأحاول الانتصار على الطفلة التي تزاحمني على المساحة الفاصلة بين قلبي والكون.. من سيعلو صوتها اكثر بعد التاسع والعشرين من اكتوبر؟ وكيف تعيش طفلة وامرأة في جسدٍ واحد؟ ومن يكتبني الآن..هي ام انا؟ نحن اثنتان.. تضجُّ الاولى بالحنين الى الزيتون والسنديان.. وتدّق الثانية طبول موعد تحليقها.. ضوء شمسٍ يعارك ظله.. عباّد شمسٍ يحارب العتمة.. فمن ينتصر؟ هو الوقت يتسرب كالرمل من بين يديهما.. أما جسدي، فيقف بعيداً يتفرج عليهما ثم يغمض عينيه كي لا يرى نفسه بعد اربعين عاماً من الآن ..