السبت، ٢٩ مايو ٢٠١٠

في ليلة السبت2

في ليلة السبت تهرب مني كل اطياف من رحلوا وتولي كأسراب اليمام الى دروب اجهل نورها , حينما تلبس الأحلام ملابس الحداد وتلقيني بقوةٍ في مهب ريح الذكريات المعتمة على بُعد لحظة يقظةٍ وسنين مسافرةٍ من النوم , ولعله هو ذاك الشوق اللعين ما يدعوني للتقلب على انصال سيوف غادرة لم تختر سوى قلبي الصغير لتنقش فيه كل آلامي الفائضة في شراييني وآمالي القادمة!
لكنني اعلم علم اليقين " بأننا في كل ما نقول وما نفعل وما نكتب إنما نفتش عن انفسنا " , ورحلة البحث عن الذات لطالما كانت شاقة ومرهقة , ولأنني ابحث عن ذاتي , عن أنايَ الحائرة وسط هذه المدينة الواسعة فعليها اذن ان تقبلني كما انا دون أي رتوش او تنازلات رغماً عن كل ذرة ترابٍ فيها الا تكفيني متاعب هذه الرحلة؟
لقد قررتُ شنَّ الحرب المعلنة في ليلة السبت , سأغني ,سأرقص , سأسبُّ القدر البائس, سأكسر كل ابواب الخيبة , وسأبكي , اجل سأبكي... فلا شيء اجمل من تنقية النفس بعد شتاءٍ كاملٍ من البكاء ! وما المشكلة لو ظن كل من يراني بأني مجنونة؟ ما المشكلة؟ "فأجمل الأشياء هي تلك التي يقترحها الجنون ويكتبها العقل "!!
لماذا يصفوننا نحن اصحاب القلم والضمير الحي والكلمة الهادفة المتمردة بالمجانين؟ وكأن المبدع هو فعلاً محض شبحٍ لا وبل غريب الاطوار ايضاً ؟ لماذا يجب ان يكون الإبداع مجرد اجترارٍ لكل ما مضى؟ او تكرارٍ منقوصٍ لكل من غادروا بموعدٍ ودونما موعد؟
وهل فعلاً يعتبر المبدع ( كاتباً كان –ممثلاً-شاعراً وحتى راقصاً ) من غير البشر؟
لا ادري..ربما كان كذلك فأحياناً أحسُّ اني املك ثلاث عيون وثلاث آذان وقلبين , وأحس بحاجتي للبكاء بقدر عشر نساء وللحضن بقدر امرأة لم تحتضن من قبل ابداً , لماذا اصرُّ على أن أحسَّ بالأشياء كلها على طريقتي الخاصة ؟ ولماذا في ليلة السبت تحديداً؟
لست ادري .. لست ادري فالأدب ما كان يوماً عرضاً للحقائق والإجابات , انه تورطٌ يتجاوز المكان والزمان والطبيعة , تشعر بأنك متورطٌ من رأسك حتى اخمص قدميك تارةً بنبيذ الفردوية الغامضة ويسعدك ذلك حتى الثمالة , وتارة اخرى ترى نفسك تعيساً وتتمنى لو خُلقت عادياً لا وبل عادياً جداً كمعظم البشر الراضين بما ملكوا وأكلوا وشربوا وقرأوا صدفةً أو مارسوا الحب بصدقٍ مرة واحدة فقط ليوهموا أنفسهم انهم على قيد الحياة وهُم في الحقيقة لا يحيون إلا يوماً واحدا كفيلم يومي يذاع على القناة الارضية وبالأسود والأبيض ايضاً !
ولعلَّ الفلاسفة قد صدقوا بادعائهم أن الشاعر اوالكاتب او الفنان يمتلك شخصية مختلةً في توازنها لا في الذكاء ولا العقل , وربما كانت "أزهار الشر" خير دليل على ذلك والعاكسة لروح احد رموز الحداثة في العالم "بودلير" والذي فشل في التأقلم مع نفسه ومجتمعه وحتى أسرته الشخصية , ولكن إن اعدنا النظر لكل ظروفه الحياتية والمجتمعية وفشله المتواصل لوجدنا ان كل ظروفه هذه هي التي كانت وقود شعره الرائع !
وربما كان ادراكنا لحقيقة اختلافنا هو ما يدعونا للعزلة والحاجة للتأمل الطويل الذي قد يمتد سنيناً بأكملها , او ضرورةً حسية لاختصار كل مظاهر النفاق الاجتماعي او الجهل الفكري المقيت وهذا وحده كفيلٌ بزجنا في سجن التميز الموحش والمسبب لوحدةٍ وغربةٍ لا تنتهي ابداً رغم كل الحاضرين والمارين والراحلين!
مشكلتنا تكمن بأن غير المبدعين يظنون دوماً بأننا نتفلسف او " نعمل من الحبة قبة" لكنهم لا يعرفون ابداً بأن هذه هي مشكلة وجودنا الكبرى, فنحن نمتلك في "جوانية" روحنا مليون عالمٍ حسي خيالي ,ولأننا نرفض ان نتواجد في القوالب الاجتماعية المتعارف عليها , فترانا دوماً افراداً متمردين على كل ما هو قائم وكل ماهو مفهوم ضمناً في اطار المسموح والممنوع والحلال والحرام , والمشروع وغير المشروع في سلة الدين والعادات السائدة والأعراف !
لذا يسبقني الحبر دوماً قبل ان انطق ببنت شفة وتغزوني التعابير وتقيدني في هذه الليلة وتشلني عن كل حركة خارج دائرة الحبر او مساحة الورق !
في ليلة السبت اكره التواجد في البيت , فالجأ للكتابة امام عملاق إلهامي الكبير ، هذا الذي على بساطه يجتمع الرمل والماء معاً ...
في ليلة السبت اكره بيتي , اكره التحديق بجدرانه ايضاً , ألا يكفي أننا نعارك الريح والنفس والجدران طيلة ايام الأسبوع؟
اكره ليلة السبت لأنها جافةُ, حارقةٌ وصامتة , اكرهها لأنها تعلقني على مشنقة الانتظار للمجهول, اجل اكرهها وألعنها وأريد حذفها من رزنامة الأسبوع فما عدت بحاجة إليها , فأناي باتت تعرف من انا..
أنا طائرٌ نورسي يحلق بين الواقع والخيال شاءت الصقور ذلك ام أبت !